عندما تغيب الرغبة الجادة في الدراسة يكون البديل عنها هو العبث الذي يصل حد الإجرام





أثناء خروج تلاميذ الثانوية التأهيلية الزرقطوني بجرادة عند منتصف النهار، هاجم تلميذ من مستوى البكالوريا بعض التلاميذ والتلميذات بمادة الحمض الحارقة ، وأصاب منهم ستة تلاميذ ، اثنان منهم تأثروا بحروق على مستوى الوجه استدعت نقلهما إلى مستشفى الفارابي بوجدة، بينما لاذ التلميذ الجاني بالفرار ، ولا زال مطلوبا لدى شرطة مدينة جرادة إلى غاية يوم الأربعاء مساء .

ولقد أبلغ السيد النائب وزير التربية بالحادثة عبر مراسلة تضمنت حيثيات هذه الحادثة لتصحيح إشاعة نسبة الحادثة لشخص من خارج المؤسسة. ولا أريد أن أخوض في الحادثة في حد ذاتها ولا في المسؤولية عنها لأن حوادث العنف أو ظاهرة الإجرام أصبحت لافتة للنظر في قطاع التربية. ولم تفتح التحقيقات ،ولا أنجزت البحوث الجادة لمعرفة انتشار هذه الظاهرة السلبية في قطاع تربوي يفترض فيه ألا يحدث فيه إجرام بحكم طبيعته .

وعندما نتأمل ظاهرة الاعتداء داخل محيط المؤسسات التربوية نجدها مرتبطة بوضعية المتعلمين الحالية ، وهي وضعية معقدة للغاية بسبب تراكمات تربوية واجتماعية ونفسية وثقافية . فالتلميذ الذي يغرر به ، فينقل من مستوى إلى آخر بمعدلات منحطة حتى يبلغ المحطة الأخيرة في مستوى الباكلوريا ، ويوضع أمام الأمر الواقع وهو الأفق المسدود بنقطة دون المعدل بدرجات معتبرة في الامتحان الجهوي المتعلق بالمواد الثانوية ، وهو يستعد لخوض امتحان وطني في المواد الأساسية ،لا شك أنه سيفقد شهية الدراسة والرغبة فيها ، ويدخل في دائرة العزوف عن الدراسة ، ويعاني من فراغ التحصيل ، وهو فراغ يفسح المجال للعبث، وربما صار العبث المتكرر والمملول بعد ذلك إجراما . وليست تراكمات النتائج الهزيلة وحدها المسؤولة عن تحول المؤسسات التربوية إلى أماكن عبث واعتداء بل هناك أمور أخرى متشابكة ومتفاعلة جدليا اجتماعية ونفسية وثقافية وما علمه عند الله عز وجل. فعندما تسود ثقافة إلقاء الآباء والأولياء وزر التربية على المؤسسات التربوية وحدها ،علما بأن هذه المؤسسات تتولى تربية الناشئة عن طريق التعليم باعتبار التربية نموا عقليا ووجدانيا وحسيا ، بينما تتولى الأسرة مسؤولية التربية أيضا من جوانب أخرى إلى جانب مؤسسات اجتماعية أخرى هي في حكم الغائبة أو المنعدمة ، لا بد أن تصير هذه المؤسسات التربوية مرتعا لجنوح الناشئة التي يتولى الشارع الموبوء تربيتها التربية الفاسدة والمنحلة إن صح أن نسمي انحرافه تربية ، فيغزو انحراف هذا الشارع الموبوء المؤسسات التربوية ، وينسب الانحراف حينئذ لهذه المؤسسات ويلعنها الآباء والأولياء والرأي العام عدوا وظلما .

ولقد جاء حادث مؤسسة الزرقطوني مباشرة بعد معاينتي يومين قبل ذلك ظاهرة حضور تلاميذ مستوى السنة الثانية باكلوريا شعبة الأدب بالثانوية التأهيلية جابر بن حيان بحاسي بلال حصة مادة اللغة العربية الأساسية في هذه الشعبة دون كتب مدرسية حيث بلغ عدد التلاميذ والتلميذات الذين حضروا دون كتب في قسم واحد 28 تلميذا وتلميذة من مجموع 42 تلميذا . ولقد اضطررت إلى توجيههم إلى إدارة المؤسسة دون أن يصدر عنها رد فعل، لأنني عندما دخلت المؤسسة وجدت مجموعة من التلاميذ في تلاسن مع إدارة المؤسسة بوقاحة تتحدى القوانين الداخلية للمؤسسة . فماذا عسى 28 تلميذا وتلميذة يحضرون حصة بدون كتب مدرسية أن يفعلوا ؟ لا شك أن غياب الوسيلة الضرورية سيجعلهم على هامش الدرس ، وفي فراغ أو في حالة بطالة دراسية ، وهذه الحالة ستؤدي بالضرورة إلى ما تؤدي إليه البطالة المعروفة من التفكير في العبث وقتل الوقت ، وهو أمر عندما يتكرر أو يواجه بشكل من الأشكال يولد التفكير في العدوان والإجرام. وإن الوزارة الوصية على الشأن التربوي غائبة كل الغياب عن البحث في ظاهرة العزوف عن الدراسة التي تأخذ أشكال متعددة منها التلكؤ اليومي في الالتحاق بالمؤسسات التربوية في الموعد ،وهو ما يتسبب في هدر الزمن المدرسي وزمن التعلم بشكل فظيع ومهول ، إلى جانب الاستخفاف بالدراسة عن طريق رفض إحضار اللوازم المدرسية بما فيها الضرورية كالكتب المدرسية ، فضلا عن ممارسة كل السلوكات المشينة التي لا تشرف المؤسسات التربوية ، والتي تجعل كل من مر بها يعقب على هذه السلوكات المشينة بعبارة : ” الله يلعن لي رباكم “. ولقد بلغ الاستخفاف بالدراسة لدى التلميذ المغربي أن توفر له الوزارة الكتب المدرسية ، ولا يكلف نفسه مجرد اقتنائها من خزانة المؤسسة ، لأنه أصلا عازف عن الدراسة ولا يرغب فيها ، بل يضطر للحضور إلى هذه المؤسسة من أجل تكسير وجوده الممل في الشارع الموبوء الذي لا يعلمه إلا المزيد من الانحراف. ومن الغريب أن يتذرع بعض هؤلاء التلاميذ ومعهم أولياؤهم وآباؤهم مع شديد الأسف والحسرة بعدم القدرة على اقتناء الكتب المدرسية ،علما بأن هؤلاء التلاميذ يتنافسون في اقتناء آخر جيل من الهواتف الخلوية التي تحرك شاشتها الأنامل ،والتي إذا ما فحصت كشفت عن تردي الأخلاق لما فيها من تسجيلات تخجل منها القردة التي لا تعرف الخجل ، وهي وسائل غش في الفروض والامتحانات بامتياز. وقد يقضي هؤلاء التلاميذ الساعات الطوال في مقاهي الأنترنيت للخوض في النقاش الساخن والحميمي الخليع والتافه على المواقع العنكبوتية بكلفة يومية قد تفوق كلفة استعارة عدة كتب مدرسية لمدة سنة دراسية كاملة .
وقد أصيبت ناشئتنا بداء الهوس الكروي خصوصا ما يتعلق ببطولة الأندية الإسبانية حيث انقسمت هذه الناشئة إلى معسكرين متعصبين لناديي البارسا والريال ، وصار لناشئتنا انتماء فوق انتمائها الديني والوطني ، وهو الانتماء الكروي. وعلى الوزارة أن تضيف ضمن أهداف وغابات المنهاج الدراسي إلى جانب التشبع بالوطنية، والعقيدة السنية الأشعرية ،والمذهب المالكي، والطريقة الجندية ، العقيدة الكروية البارسوية والريالية لتتضح معالم شخصية رجال ونساء الغد المعول عليهم لنقل الوطن من خانة العالم الثالث إلى خانة الدول المتقدمة. ويبدو لي الصراع بين الناشئة الريالية والبارساوية كالصراع بين أصحاب النقائض في الشعر العربي القديم في عهد بني أمية حيث انقسم الشعراء إلى أخطليين وجريريين وفرزدقيين لتعاطي الهجاء . وإذا كان أصحاب القدماء لم يتجاوزوا حد القول في هجائهم ، فإن الناشئة البارسوية والريالية اليوم تصل بالصراع بينها إلى حد العنف والإجرام ، ومن يدري قد يكشف التحقيق مع التلميذ الذي رمى زملاءه بالحمض الحارق أنه ربما جرح في كرامته البارسوية أو الريالية ، وكان الله في عونه، لأن الكرامة الكروية صارت اليوم أغلى من كرامة العرض الذي استبيح استباحة غير مسبوقة في وطن الشمم والنخوة والإباء يا حسرتاه .

 فماذا عسى أن نقول عن الجاني المستعمل للحمض الحارق ، ولضحاياه سوى اعتبارهم جميعا ضحايا منظومة تربوية مهترئة لأن أمرها آل إلى غير أهلها ، فكثر فسادها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


محمد شركي


تعليقات

المشاركات الشائعة