المدرسة المغربية والبحث عن مسلك للخلاص



لجن ومناظرات ومواثيق ومخططات امتدّت من بداية الاستقلال إلى اليوم..




حينما غادر الاستعمار الفرنسي، ووقعت إدارة الحماية وثيقة الاستقلال، كانت فرنسا قد تركت خلفها ثقافتها ولغتها. كما تركت طرق التدريس التي اعتمدتها منذ 1912 في عدد من مناطق المغرب،والتي لم تكن تنافسها غير بضعة مراكز للتعليم التقليدي والديني التي حافظت على بعض الروابط التي جعلت منها مدارسَ مغربية بامتياز إذا ما قورنت بما كان عليه الأمر في عدد من المدن المغربية.. لذلك فحينما وجد الوطنيون أنفسَهم أمام الأمر الواقع في تدبير الشأن المغربي، راهنوا على تعليم يجب أن يكون مستقلا، ويستمدّ روحه من مقومات المغرب ومرجعياته الثقافية والدينية.


وهكذا سجلت السنة الأولى من الاستقلال إنشاءَ اللجنة العليا لإصلاح التعليم. وفي هذه اللجنة تقرَّر أن يتم تعريب التعليم الابتدائي وتوحيد البرامج التعليمية في مختلف مناطق البلاد، مع تحديد سلك أول ابتدائي يتوزع على خمس سنوات، وسلك ثانوي من ست سنوات.


غير أنّ هذه التجربة لم تعمّر غيرَ سنة واحدة، حيث ستحمل لنا سنة 1958 إنشاء اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، والتي اطلقت أولى «مبادراتها» بإلغاء ما حملته اللجنة العليا لإصلاح التعليم، والتراجع عن كل قراراتها، ومن ذلك الرجوع إلى نظام ست سنوات في السلك الابتدائي وإلى اللغة الفرنسية، خصوصا في مواد الرياضيات والعلوم.. لكنّ أصعب القرارات التي حملتها هذه اللجنة الثانية في مشوار الألف ميل، الذي عرفه قطاع التربية والتعليم، هو إلزامية إعادة القسم بالنسبة إلى التلاميذ.


وبالسرعة نفسِها، والارتجال نفسِه أيضا، ستحمل السنة الموالية، وهي 1959، قرارا جديدا يعني القطاع، وهو إنشاء لجنة التربية والثقافة، التي سيتقرر بموجبها وضع التعليم الخاص تحت وصاية وزارة التربية الوطنية..


أما في السنة الموالية (1960) فقد أحدِث معهد الدراسات والبحوث حول التعريب، في أفق تعريب المواد العلمية في السلك الابتدائي، وهو ما حدث في السنة نفسِها.


لم ينعقد أول اجتماع للمجلس الأعلى للتعليم إلا في 1961، وهو الذي تمّت المراهنة عليه ليقدّم للمدرسة المغربية خارطة الطريق التي يجب أن تسير عليها. لكنّ هذه المؤسسة فشلت في أن تؤدّيَّ الدور التربوي الذي انتظرته منها الأسر والمُرَبّون، لأنّ الحصيلة هي أن القطاع سيعود إلى «الارتباك» حينما سيتقرر، مرة أخرى، إلغاء تعريب المواد العلمية من سلك التعليم الابتدائي.


وابتداء من سنة 1963، ستختار الدولة المغربية أن تسنّ سياسة إلزامية التعليم للفئة العمرية ما بين سن  السابعة والثالثة عشر، بموجب ظهير شريف، مع إحداث مندوبية سامة للتكوين المهني.


لكن هذه الإلزامية ستشكل مُجرّدَ محطة عابرة لأنّ السنة الموالية، وهي 1964، هي التي ستعرف تحولا عميقا في مسار المدرسة المغربية، حينما تقرّرَ تنظيم مناظرة وطنية حول التعليم في المعمورة. ومن أهم خلاصات هذه المناظرة، الأولى في القطاع، الإقرار بأنّ لغة التعليم في جميع المراحل هي اللغة العربية، ولا يشرع في تعليم اللغات الاجنبية إلا ابتداء من التعليم الثانوي.


وابتداء من سنة 1965 الى 1957، وهي سنوات ما عرف بـ»المخطط الثلاثي»، ستعرف المدرسة المغربية تراجعا خطيرا مس المبادئ الأساسية التي بُنيت عليها المدرسة المغربية في عهد الاستقلال، وهي التعريب والتوحيد والمغربة، بمبرِّر أن ميزانية التعليم في حاجة للتقليص بسبب ارتفاع فاتورتها.


لقد عرض وزير القطاع، ابتداء من سنة 1966، وهو وقتها السيد بنهيمة مخطط الإصلاح، والذي تقرر فيه تقليص للتمدرس كخطوة ضرورية، مع تمديد مدة الدراسة، وإلغاء التعليم التقني والمهني.. اضافة إلى العودة مجددا إلى الازدواجية في التعليم الابتدائي بين اللغة العربية والفرنسية. لكنّ سنة 1967 ستعرف التوقف النهائي لتعريب مواد العلوم والرياضيات في سلك التعليم الابتدائي، مع القطع مع تجربة مَغرَبة الأطر.
وعلى وقع الارتجال نفسِه، ستتوزع وزارة التربية الوطنية إلى شقين، أحدهما للتعليم الابتدائي والثاني للتعليم الثانوي، قبل أن يزيد عن ذلك فرع ثالث عن الوزارة نفسِها سنة بعد ذلك.


وستشكل سنة 1970 منعطفا حاسما في مسار المدرسة المغربية، حينما تم إحداث المجلس الأعلى للتعليم، مع ما رافق ذلك من قرارات يعتبرها الكثير من المتتبعين البداية الحقيقية لإشكالية التعليم في المغرب، ومنها قرار تعريب مواد الفلسفة والتاريخ والجغرافيا..


وفي هذه السنة ذاتِها، ستعود الدولة لتجرّب عقد مناظرة ثانية حول التعليم (انعقدت في إفران). لكنها لم تسفر عن أي نتائج عملية يمكن اعتمادها للمستقبل.


وحدَهم بعضُ علماء ومثقفي المغرب سيصدرون بيانهم الشهير، الذي حذر من ازدواجية اللغة، ودعا إلى التعريب العام، خصوصا أن اللغة العربية كانت وقتها تتعرّض -حسب بيانهم هذا- للتحقير.. مع الدعوة إلى حماية تلك المبادئ الأساسية للمدرسة المغربية، وهي التعميم والتعريب والمغربة.


ثلاث سنوات بعد ذلك، سيقرر المخطط الخماسي المبادئ نفسَها من خلال  سياسة التعميم وتكوين الأطر المغربية.. لكنْ قبل أن يضع هذا المخطط نقطة نهايته في 1977، سيعترف وزير القطاع، وهو وقتها السيد عز الدين العراقي، الذي كان يمثل حزب الاستقلال في الحكومة، بأنّ الازدواجية هي سبب تدني مستوى التعليم في البلاد، لذلك لا بد من المحافظة على مبادئ التعميم والتعريب والمَغرَبة..


غير أن سياسة التعريب ستصبح، ابتداء من سنة 1980، إلزامية في المواد العلمية في السلك الابتدائي، رغم أنّ مناظرة إفران الثانية انتهت إلى وضع مشروع لإصلاح التعليم ككل.. وهو المشروع الذي حرّكت خلفياته بعضَ القضايا السياسية، والملفات التي كانت فيها المدرسة المغربية حاضرة بقوة.. لذلك ستعرف الجامعة المغربية ابتداء من هذا المخطط إحداث شعبة الدراسات الإسلامية مثلا، لـ»ضرب» شعبة الفلسفة في كليات الآداب.


وفي المخطط الثلاثي للتعليم، الذي امتد من سنة 1987 إلى سنة 1980، عاشت المدرسة المغربية على «حلم» تنمية التعليم القروي، ومتابعة ملف مغربة الأطر، لكنْ مع ضرورة تقليص عدد الملتحقين من الطلبة بالمؤسسات العليا. وهو القرار الذي سيمتد في السنة الموالية ليشمل قضايا أكبر، بعد أن دخل البنك الدولي على الخط في ما اصطلح عليه بـ»التقويم الهيكليّ»، والذي شمل المدرسة المغربية بدرجة أكبر، خصوصا أن سنة 1983 ستحمل قرارا خطيرا اعتبر معه التعليم «قطاعا غيرَ منتج»، مع ما رافق ذلك من إصدار لمرسوم يفرض أداء رسوم لولوج مؤسسات التعليم العالي.. غير أنّ المرسوم ظل حبرا على ورق، ولم يتمّ تفعيله بعد أن اشتعلت الجامعات وانتفضت الشوارع في ما عرف بمظاهرات سنوات الثمانينيات.. وهي الفترة التي ستعرف تسجيلَ أكبرَ عدد من «المطرودين» من المدرسة المغربية، رغم أنّ وزارة التعليم ستعود سنة بعد ذلك لتعلن «إجبارية» التعليم لجميع الأطفال في سن التمدرس، كما ستعلن تشجيعها تجربة التعليم الخاصّ..
لم تستقم أمور المدرسة المغربية.. وظل الحسن الثاني يُعبّر في كل مناسبة عن عدم اقتناعه بالمستوى العامّ للتلاميذ والطلبة، لذلك سيُعلـَن في 1994 عن تشكيل اللجنة الوطنية المختصة بقضايا التربية والتعليم، وهي اللجنة التي أنهت أشغالها سنة بعد ذلك، وخلـُصت إلى أنّ المدرسة المغربية مُطالـَبة بترسيخ القيم الروحية للإسلام وتعميم التعليم، مع إقرار إلزاميته ما بين سن السادسة والسادسة عشرة، واعتبار اللغة العربية محورا أساسيا في التعليم، أما المجانية فهي أمر حتميّ في المدرسة المغربية.


لن ترى قرارت هذه اللجنة النور، حيث تم «إقبارها»، ولن تعود إلى واجهة الأحداث إلا مع تقرير البنك الدولي، الذي دعا إلى «ضرورة إعادة النظر في قضية مجانية التعليم».


وفي سنة 1999، مع حكومة التناوب، خرج مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وهو المشروع الذي حظيّ بتوافق كل المتدخلين. وانتظرنا أن يحقق «الميثاق» النقلة المُفترَضة، لنجد أننا لم نبرَح مكاننا واكتشفنا، بالكثير من الصدمة، كيف أنّ تلاميذ السنة السادسة ابتدائي، مثلا، لا يُحسنون القراءة ولا الكتابة ولا الحساب.. كما كشف ذلك التقريرُ الشهير للمجلس الأعلى للتعليم، في إحدى دوراته.


وفي الوقت الذي انتظر الجميع أن يصل الميثاق إلى محطته الأخيرة ويقدّم الذين كانوا يديرون خيوطه الحساب عما تحقق وعن هذا الذي لم يتحقق، سينزل علينا مخطط تعليميّ جديد أطلق عليه اسم «المخطط الاستعجالي» لإصلاح منظومة التربية والتعليم.. ما يعني أنّ الميثاق الوطني عجز عن المضي بنا إلى بَرّ الأمان، ولا بُد لهذا المخطط أن يُصلح الداء، خصوصا أنه «استعجالي»، حتى وإن امتدّ من سنة 2009 إلى 2012..


رُصدت للمخطط الاستعجالي إمكانيات مالية «مُحترَمة» فاقت كل تصور.. واعتقد الكثيرون أن عيب الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي كان هو غياب إمكانيات مالية كافية لتطبيق بعض أفكاره، يمكن أن يتم تجاوزه. وسار المخطط يُحصي بؤر تعليمنا السوداء، التي امتدّت من التجهيزات إلى الموارد البشرية غير الكافية، إلى التعليم الأولي، والهدر المدرسي وما إلى ذلك من مُعيقات.. والحصيلة هي أنّ أول «إنجاز» تحقق مع حكومة بنكيران هو إلغاء كل ما حمله هذا المخطط من مشاريع وأفكار، في الوقت الذي كان المنطق يفرض أن يتم تقييم التجربة والأخذ بما هو إيجابي فيها...


اليوم، ورغم أنّ عمر هذه الحكومة يقارب السنتين، لا تزال ملامح الإصلاح الذي بشّر به الوزير محمد الوفا غيرَ واضحة.. لذلك يتطلع المتتبعون للشأن التعليمي إلى الموعد الذي ستنطلق فيه أشغال المجلس الأعلى للتعليم، الذي أعطاه الدستور الجديد صلاحيات رسم خريطة طريق المدرسة المغربية..


     أحمد امشكح


تعليقات

المشاركات الشائعة