من أجمل ما كتب عن الحركة الانتقالية 'الانتقامية'



نزار إبراهيم‎

كل حركة و أنتم بخير : إلى هؤلاء: - المدرس(ة)الذي يدرس اليوم ببادية "إنمل" بإقليم الراشدية داخلا إليها مفقودا. - إلى أخي الذي اقتطعت بادية"إنمل" من عمره فترة كمدرس قبل أن يغادرها مولودا - إلى أطفال تلك القرية و أهلها الذين تجاوزصمودهم صمودنا جميعا. - إلى الشاعر المدرس نزار إبراهيم الذي لفرط مرارة ما يحيط بالمهنة اكتسب دمه حلاوة مفرطة (داء السكري). وضع ثقل خمسة عشر عاما من الأقدمية فوق حمار أحد تلامذته ،ركب التلميذ خلفه تاركا بينهما المسافة الكافية لحفظ هيبة الأستاذ التي خدشتها كثيرا نكت العامةوالخاصة ،أمسك التلميذ بتلابيب البردعة بتحفظ ."الفروسية " فوق ظهورالحمير لم تعد جديدة على أستاذه ، فالوصول للطريق الذي تسلكه السيارات على بعدأكثر من ساعة ، وصحته لم تعد تحتمل المشي لمسافة طويلة . تحسس جيب محفظته ليتأكد من وجود الورقة التيسجل بها رقمه السري لولوج موقع الحركة الإنتقالية الإلكتروني ،ثم هش على الحمارليسرع الخطى . وصل الطريق الذي تسلكه السيارات وعاد التلميذ أدراجه وفي رصيده ما سيفخر به أمام أقرانه لأسابيع عدة ، لقد أسدى خدمة للأستاذ (كأمر مسلي لندرة الأشياء المسلية حقيقة للأطفال في البادية... )، وبالمقابل استمتع برؤيته في كامل ضعفه الإنساني يهش على حمار ،وشاهد سرواله الموقر ينكمش لطول مدة الركوب ،سيقول للتلاميذ فخورا : "لقد ركبت حمارنا برفقة الأستاذ .." انضافت لسنواته السبع في انتظارالتوظيف ولسنواته الخمسة عشر من العمل ساعة أخرى من الانتظار على حافة الطريق المؤدية إلى القرية المجاورة حيث بوادر "الحضارة" :ماء في الحنفيات وكهرباء و الأهم نوادي للأنترنت ... لمح في الأفق غبارا متطايرا ولخبرته في الانتظار على حافة الطريق ، عرف للتو أن الغبار تثيره شاحنة، لقد أصبح "عالما "في الزوابع ، لكل عربة زوبعة،الزوبعة الوحيدة التي لم يستطع إدراك أنها بدون طحين هي زوبعة الحركة الانتقالية، ينخرط كل عام منذ خمسة عشر عاما بالحماس نفسه والأمل نفسه ، حتى الغرفة التي يسكنها على مقربة من قسمه الوحيد لم يكلف نفسه عناء تجهيزها بأثاث يليق بالثقل الزمني الذي عبره بها .يردد دائما "علاش نصاوبها؟ واش غادي نبقى هنا ؟؟"وهكذا وبهذا المنطق "المتفائل "قضى ما يقارب عقدا من الزمن كأنه في مخيم اللاجئين ، تعبره قسوة المكان وهويعتقد أنه العابر للمكان ..... ركب الشاحنةالمحملة بروث الحيوانات ، لا مزاج لديه للتذمر من الرائحة ، إذ يرى الفرج قريباوهو مجرد "عابر " لهذه الظروف،لا مزاج لديه للحديث الكثير مع السائق ،لأنه سئم الجمل المنضوية على الشفقة تارة والحقد تارة والتي طالما سمعها من السائقين الذين في أغلبهم غادروا المدارس مبكرين ، ونما معهم حقد مشروع على المدرسة التي قذفتهم خلف مقود العربات ليلاونهارا ،و لفظتهم بمناهجها الغريبة ومسافاتها البعيدة عن محل سكناهم ليختصرواحقدهم ويوجهوه ضد أعتى رمز من الرموز"المسببة" للفشل الدراسي في الوعي الجمعي المغربي "المعلم". في أذهان الناس ،لا مؤسسات مالية دولية تملي سياسات تعليمية فاشلة ،لا بنية تحتية مهترئة ،لا برامج مكتظة ،لا وضعية اجتماعيةللفاعلين التربويين مسؤولة على الفشل الدراسي ،كل فشل أو عدم مسايرة أو هدر مدرسي أو دبيب نملة تحيد عن مسارها في المدرسة سببها المعلم "اللعين". وصل القريةوشكر السائق على أريحيته وعلى تجاوزه اختصاصاته والزحف بمعية الحمار (المشكور أيضا)على اختصاصات وزارةالنقل وحل بعض من مشاكلها ، وهرول إلى أقرب ناد للأنترنت. المكان مكتظ بالمدرسين عن اخره، مرابطين صامدين أمام أجهزة الحاسوب ، ، لا ينفتح موقع الحركةالانتقالية الإلكترونية ، وهذا البياض على الشاشة يثير الأعصاب إلى حد كبير ، فتح حاسوبا بدوره ثم موقع الوزارة وانضم إلى لائحة المنتظرين .بعد أربع ساعات من الإنتظاردون جدوى غادر النادي لا يلوي على شئ ، ووقف في الطريق منتظرا ثانية بدء رحلةالعودة "لقواعده"غير سالم :أمل أقل ،غضب أكبر وحزن شديد..وعلى الظهر عبءيوم حافل بالانتظار. التحق بفصله في اليوم الموالي ، واشتغل بشكل الي كحاسوب مبرمج ،حضوره الإنساني في الفصل كان منعدما ، لا يكاد يرى دموع طفلة خطف منها زميلها قلما ،ولا هو انتبه لغياب التلميذ صاحب الحمار الذي ربما اعتقد أن رحلة الأمس ستشفع له عند مدرسه فارتأى عدم الإلتحاق بالفصل ،أو ربما لأن الأستاذ لم يعد مخيفا "فهو يركبالحمير كالجميع"... بعدما سمع من زملائه بأن الموقع ينفتح غالبا قرابة الثالثة صباحا ،رد بسخرية لاذعة " واش نعمرو الحركة ولى نتسحرو ؟؟"،لكنه في قرارة نفسه حسم أمره ، بعد انتهاء حصصه سيذهب للقرية وسيبيت هناك مترصدا الموقع . بعد رحلة مضنية ثانية وصل القرية متعبا ، فقد اختارالمشي مادام لن يذهب لنادي الأنترنت باكرا . احتضنت غرفةرثة في الفندق الوحيد تشرده ، دفع عشرين درهما واستلقى على السرير، بعد ضبط ساعته على الثانية والنصف.استيقظ والتحق بالنادي الذي تبقى أبوابه مفتوحة طيلة الليل إسداء لخدمات جليلة للمجتمع : التحايل على الأرق وامتصاص الفراغ والعطالة والوحدةوالهوس وحب الاستطلاع.. في انتظارانفتاح الموقع ، عثر على مقال له علاقة بالمدرس بعنوان "عقلية المدرس الذي لا يقبل التغيير"،اعتقد من خلال العنوان أن التغييرالمقصود هو الإنخراط في أية حركة اجتماعية قد تغير وضعية المجتمع،"عنوان جميل،من المزعج أن تتحول نقاباتنا لمجرد إطارات للنضال الخبزي ومعايير انخراطنا كمدرسين مجرد أولويات شخصية انتهازية ..يجب التفكير بشمولية" هكذا فكر قبل قراءة المقال ،لكن المحتوى لم يكن يتناول الموضوع نفسه بل يتحدث عن"تحجر" الأساتذة الرافضين للحركة الانتقالية الإلكترونية ، حتما كاتب المقال لا يعرفه ولا يعرف شيئا عن رحلته اليومية ... بعد ما يقارب نصف ساعة هلت صفحة طلب المشاركة في الحركة الانتقالية على الشاشة،عبأ الطلب بعناية يحدوه أمل كبير .قبل المصادقة على طلبه لمح خطأ في معلوماته الإدارية في أعلى الصفحة وتصحيحها من اختصاص المدير..شعر بحنق شديد . سيناريو اليوم سيتكرر غدا إذ لا يمكنه تعبئة الطلب قبل تصحيح الخطأ و إلا ألغي طلبه. أطرق برأسه وشاهد قملة على كم قميصه ،"غرفة في فندق بعشرين درهما يكون فيها دم المرء وجبة دسمة للقمل والبق..." هكذا فكر ،ثم أغلق نافذة الموقع وغادر بعدالإتصال بمديره وإخباره.. في الفصل طلب من تلاميذه كتابة صفحة القراءة خمس مرات....ونام على مكتبه... في المساء عاد للقرية وللفندق نفسه ،لكن هذه المرة جاء متسلحا بمبيد للحشرات وبشهادة طبيةتثبت حاجته للراحة لمدة ثلاثة أيام .في نادي الأنترنت عبأ الطلب وطبعه و تركه للمدير في مقهى هو همزة وصل بينهما. على الظرف عبارة مكتوبة بحروف ضخمة "كل حركة و أنتم بخير"، غادرفي الصباح لكن هذه المرة ليس إلى البادية ،بل إلى المدينة المجاورة ، فبين زمنه والزمن المدرسي تمة تداخلات غريبة لم يصنعها ،طالما زحف الزمن المدرسي على زمنه ،وحوله خارج أوقات عمله إلى حارس للمدرسة وبناء يصلح ثقوب سقف الحجرة ومنظف يكنس الفصل وحلاق يحلق رؤوس التلاميذ وكاتب عمومي لاباهم ،واليوم يزحف زمنه على الزمن المدرسي فيضيف تلاميذه للائحة ضحايا الحركة الانتقالية الإلكترونية للذهاب للمدينةلينسى القمل والبق والحمار قليلا ... كل حركة و أنتم بخير....ترجموا الحكاية في صيغة المؤنث،هي حتما صعبة حتى لمجرد التخيل...


السعدية الفضيلي







تعليقات

المشاركات الشائعة