رفقا برواتبنا معشر الجُباة




تفتح التماسيح البنكية أفكاكها الفولاذية في اليوم الأخير من كل شهر. تنفلت بقايا الرواتب والأجور نحو أنامل و جيوب الضحايا، ممتصَّة، معصورة، مجففة فاقدة اللون والطعم والرائحة. تهرع الكائنات الشهرية من أصحاب السلاليم الأجرية مهرولة، جماعات وفرادى، نحو الوكالات البنكية المتناثرة في الأحياء الهامشية، قربا من البائسين. ينتظر «الأستاذ أحمد» طلوع النهار بفارغ الصبر. ينهض مسرعا على غير العادة. يخرج من البيت نشيطا. يتجه إلى أقرب شباك أوتوماتيكي مفصِّلا في دماغه المتوثب ما سيتبقى من الراتب تفصيلا دقيقا.. يوزعه على الدائنين التقليديين: السكن، الهاتف، الماء والكهرباء، الخضر، البقال، مصاريف المدرسة، وديون الأيام العشرة الأخيرة من كل شهر.. نفس الديون المزمنة الضرورية والمصيرية. لا كماليات، لا مصاريف إضافية، لا علاج، لا دواء، لا سفر أو ترفيه. يتم التوزيع الذهني المألوف بسرعة فائقة.. لا يحتاج الأمر إلى عمليات حسابية معقدة. الراتب المتبقي بعد خصم الضريبة على الدخل من النبع، مستحقات شركات القروض. القائمة معروفة. العمليات الذهنية يسيرة ومألوفة. يطمئن على مصداقيته، على صورته لدى الدائنين. تزداد ثقته في قدرته على الاستدانة من جديد.

يقف الأستاذ أحمد ينتظر دوره وسط طابور المنتظرين أمام الشباك الأوتوماتيكي. يأتي دوره. يخرج حقيبته الجلدية القشيبة من قلة الاستعمال بحركة لاإرادية. يستل بطاقة بنكية لا ترى النور إلا عند مطلع كل شهر. يبسمل. يدفع البطاقة داخل الشباك. يركب القن السري بخفة ورشاقة. رقم سري قد ينسى التشهد، لكن لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن ينساه. تنفتح لوحة المفاتيح. يضغط على زر الاطلاع على الرصيد للاطمئنان على سلامة الراتب، على الأقل، إن لم تكن هناك إحدى المفاجآت السارة النادرة. مسكين. كانت النتيجة غريبة، مخالفة للتوقعات: الراتب غير موجود. الأستاذ أحمد مدين للبنك بمائتين وخمسين درهما. أمر لا يصدق. يعيد العملية.. نفس النتيجة. البرامج المعلوماتية لا تكذب. يتأكد أستاذنا من وضعية الرصيد. لا شك أن المؤسسة البنكية نسيت أن تقوم بالتحويل. لا. لا بد أن هناك خطأ ما أو أنه، ببساطة، أتى باكرا. يا ليت الأمر على هذه الصورة. الأمر مستبعد. يأتي أستاذ زميل، يشبهه في كل شيء. يستنطق الشباك. يسحب نقوده. يلتفت إليه باسما: «لقد تم التحويل كالعادة. أحترم في الأبناك الوطنية انضباطها في المواعيد». ينسحب. يظل الأستاذ أحمد متسمرا في مكانه. تنط أمام عينيه صور الدائنين في رقصات بهلوانية. يستفيق من صدمته. يقرر التحرك بسرعة. يقتحم باب الوكالة البنكية مستفسرا. يحيله الشخص المكلف بالأمن الخاص على الموظف المسؤول. نفس النتيجة. لا يمكن أن يكون هناك فرق بين المسؤول والشباك. ينصت مدير الوكالة إلى احتجاجه برقة ولطف لامتناهيين. يتفهم وضعه. يجري بعض الاتصالات الهاتفية بالبنك المركزي. نفس النتيجة. لا علاقة للبنك بمصير الراتب. يضاعف المدير من رقته التجارية. ينصحه بالصعود إلى المنبع.



يسابق الأستاذ أحمد الزمن. يطوي المسافة بين الرباط والبيضاء منكمشا في أحد مقاعد القطار المكوكي. يتمنى لو تحقق حلم القطار فائق السرعة. يجتاز تمرين سيارات الأجرة الرباطية بسلام. يجد نفسه وجها لوجه أمام الموظف المسؤول عن مصلحة الرواتب. يسأله الموظف باسما عن رقم تأجيره. يدخله إلى الحاسوب. يخبره دون أن ينظر إليه: «لم تتوصل براتبك لسبب بسيط». يبتسم الأستاذ أحمد اطمئنانا. يواصل الموظف: «لقد تم تنفيذ الأمر باقتطاع ما بذمتك من مستحقات ضريبية لفائدة الدولة». يصعق الأستاذ. يتساءل: «أية ضرائب؟ إنكم تقتطعون كل شهر نصف الراتب تقريبا كضريبة على الدخل». يلتفت إليه الموظف في جدية مفتعلة. «قضي الأمر. تماطلت في أداء ما عليك من ضرائب غير الضريبة على الدخل. نسيت الضريبة الحضرية أيها المحترم». يصعد الدم حاميا إلى رأس الأستاذ البارد كالثلج. تستولي عليه الرغبة في الصراخ، في الانقضاض على الموظف المتعجرف، في تدمير حاسوبه. يمنعه رأسه البارد من الحركة. يفضل الحوار. رئيس المصلحة بهدوء وتودد: « أعرف أنك لست مسؤولا عما حدث، وأعرف أنك أيضا معرض لهذا النوع من العقاب. لكن، هلا فسرتَ لي هذا الشطط في استعمال السلطة.


 تقتطعون دون إنذار، دون إخبار أو إشعار. تنزلون القرار كالسيف وكأننا حشرات سامة أو كائنات طفيلية. ظلم كبير. هذا السلوك المافيوزي لا يليق بدولة تصف نفسها بكل الإيجابيات الموجودة في القواميس «. يمتعض الموظف، ليس دفاعا عن الدولة، وإنما خوفا من أن يساير الأستاذ أحمد في هذيانه وتمرده، ويستسلم للبكاء. «انتهت الزيارة». يلتفت إلى الطابور الطويل من أشباه أحمد: «الرقم الموالي؟».يستسلم الأستاذ أحمد، يطأطئ رأسه وينسحب. تدور في رأسه جملة رئيس المصلحة الأخيرة. يدرك أنه مجرد موظف بصيغة المفعول، ينضبط للأوامر ويبتلع الخيبات. مجرد رقم في عملية حسابية دقيقة جدا، لا يأتيها الباطل من أي مكان؛ عملية رقمية خالصة معلوماتية مبرمجة بكيفية تلقائية وبقدر عال من الموضوعية والحياد؛ عملية بيروقراطرقية لتحقيق الموازنة الرقمية بين المداخيل والنفقات، ولا مكان في برمجتها للأبعاد الإنسانية والنفسية والاجتماعية والحضارية، والكثير من الديماغوجية والكلام الفارغ الطنان الذي يتقنه السياسيون والدجالون والجباة. الاقتطاع مجرد عملية رقمية بريئة.


لا يمكن للأرقام أن تحتج على العمليات المتقنة. ولم يحدث يوما أن راسلت الأجهزة الحسابية رقما تشعره بأنها ستضاعفه أو تجري عليه عملياتها الأربع أو تسند إليه قيمة سالبة أو موجبة. إحساس رهيب، رهيب أن يُختزل أستاذ يحيط نفسه بهالة من الأوهام إلى مجرد رقم. لم يسعفه الحقل المعجمي السالب في وصف الصورة الدونية التي كوّنها عن ذاته. شعر بأن عبارات الذل والمسكنة والمهانة والاحتقار وكل محاقلاتها قاصرة وعاجزة عن الإيفاء بالمطلوب. بدا له المعجم السياسي المتداول تافها، عقيما، مليئا بالدلالات الطوباوية. يصعد إلى القطار رقما سالبا. ينظر إلى الأرقام المتراكمة في المقاعد الرقمية. يستبق الزمن. تتراءى له زوجته وطابور المدينين الطويل المرصوص أمام بيته في تلهف وانتظار إطلالته الباسمة. تتراءى له ردود أفعالهم العنيفة.. يبتسم. تستهويه الحقيقة. إنهم بدورهم مجرد أرقام. الكل أرقام بدون أبعاد إنسانية، بدون كرامة. ما عدا ذلك أكاذيب وأباطيل وأراجيف، وشعارات إصلاحية وتوصيات تتبخر مع نهاية الملتقيات الاستجمامية. يبتسم. يطمئن الجباة، تنتعش الآلة الحسابية.. تتناسل الأرقام.






محمد ط






تعليقات

المشاركات الشائعة