المدرسة المغربية بين التلقين والتعلم الذاتي






يلاحظ المتتبع للشأن التربوي في بلادنا النزوع المتنامي نحو التأسيس لمذهبية بيداغوجية باتت يتتحكم في توجيه الاختيارات الكبرى لمنظومتنا التربوية، غير أنّ البيداغوجيا عندما تصبح مذهبا في حد ذاتها، فإنها وبكل بساطة تلغي دور المدرّس، وهو منحى يصدر عن تصور يقوم على اعتبار البيداغوجيا هدفا وغاية في ذاتها وليست وسيلة للتعلم. ويذكرنا هذا بذلك الانبهار الذي أبداه الشكلانيون الرّوس، في ثمانينيات القرن الماضي، تجاه الأشكال الأدبية،عوض الاهتمام بشعرية وبلاغة الأثر الأدبي.. وقد بلغ ببعضهم الأمر إلى حد وضع قوالب فارغة وقابلة لاحتضان أي محتوى أدبيّ، متناسين أنّ الإبداع ملَكة تصقل بالدّربة والمراس، فكان الفشل نتيجة حتمية لهذه التجربة، التي لم تعمّر طويلا.. ينسحب الأمر نفسه -مع بعض الاختلاف- على مُناصري المذهبية البيداغوجية، التي من المجحف أن نحمّل وزرها لخبير بعينه أو حتى لمجموعة خبراء، بل لا بد -من باب لإنصاف- من الاعتراف بأنّ الميثاق الوطني هو الذي ربط انطلاق إصلاح التربية والتكوين بجعل «المتعلم بوجه عام، والطفل على الأخصّ، في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية»، ومن ثم وجب أن «يقف المربّون والمجتمع برمته تجاه متعلمينا عامة، والأطفال خاصة، موقف التفهم والإرشاد والمساعدة على التقوية التدريجية لسيروراتهم الفكرية والعملية».وتأسيسا على هذا التصور جعل الميثاق الوطني من محورية المتعلم مبدأ أساسيا ومرتكَزاً ثابثا وغاية كبرى للمدرسة المغربية المنشودة. 


وتستند هذه المحورية إلى فكرة جوهرية تتلخص في اعتبار الطفل -المتعلم يمتلك مهارات الصانع الذي يتحكم في سيرورة نموه ومسار بناء تعلماته بكيفية ذاتية وتلقائية. وينم هذا التعامل، المثالي إلى حد ما، مع المتعلم ورغم مقبوليته الشكلية وجاذبيته الأسلوبية، عن فكرة فلسفية أساسية تعود بنا إلى طروحات الفلسفة الأفلاطونية، التي تتسم بحذر شديد تجاه فعل التعليم، على اعتبار أن الطفل يأتي إلى العالم ذاتا عارفة، بل إنه كلما ابتعد زمنيا عن لحظة ولادته إلا ويأخذ تدريجيا في نسيان معارفه.. وبتعبير أدقّ: يصبح التقدم في العلم إتقانا للجهل.. والتعليم بهذا المعنى لا يعدو كونه فعلا إرشاديا لمتعلم عارف يحتاج فقط لمن يأحذ بيده و يوجّهه ليستذكر ما يكون قد نسيّه. فالمعرفة كامنة بداخله ودور المعلم -المدرّس هنا لا يتجاوز دور المُعين.أليس هذا إجحافا في حق الطفل وتقزيما لدور المدرّس؟ الأكيد هو أن مقاربة كهذه تؤسس -لا شك- لأنطولوجيا جديدة للمدرسة المغربية، بتحويلها من فضاء للتلقين والتحصيل إلى فضاء لاكتساب مهارات التعلم الذاتي. وقد يجد المدافعون عن هذا الرأي في أطروحات بيير بورديو حول المدرسة مسوغا يسعفهم في تقوية حجتهم باعتبار المدرسة مكانا لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية وتكريس ثقافة الفئة المهيمنة.. وهو -ربما- ما حذا بوزارة التربية في فرنسا منذ 1989 (على عهد الوزير الأول الأسبق ليونيل جوسبان ووزيره في التربية الوطنية كلود أليكر) إلى اعتماد المنهاج الاستنباطي في التدريس، بالتركيز على الاكتشاف والتعلم الذاتي بدل التلقين والتعليم.وقد أدى الخوض في هذا النوع من الاعتبارات إلى تعقيدات وسجالات بيداغوجية انزاحت بالفكر التربوي من التركيز على فعل التعليم والتعلم إلى التركيز على المتعلم، الذي بات مُطالَبا -حسب مقتضيات المقاربة بالكفايات- بأداء واجبه المهنيّ كمتعلم. فكما نتحدّث عن مهنة المدرّس، صرنا نتحدّث كذلك عن مهنة المتعلم، الذي أصبح، هو الآخر، بهذا المعنى مسؤولا عن تعلماته وإخفاقاته.لنفرض، جدلا، أنّ هذا التصور هو التصور الوجيه، بصرف النظر عن الأساس النظري الذي يستند إليه، سواء تعلق الأمر بفلسفة افلاطون أو بالفلسفة المشائية أو بالطروحات السوسيولوجية التي دافع عنها بورديو، فكيف للتلميذ أن يتمكن من المعارف الأساسية وكيف له أن يُتقن لغته إلى جانب اللغات الأجنبية في غياب تعليم يعتمد تلقين القواعد النحوية ودراسة المؤلفات وحفض الأشعار؟ وهل يمكن أن نتصور طالبا في الهندسة أو في الطب أو الكيمياء لا يعتمد سوى على معارفه الذاتية، ولو بتوجيه وإرشاد من أساتذته؟..

 خلاصة القول إننا انشغلنا كثيرا بأشكال التفكير وطرائق التدريس وأنواع التقويم، وبالغنا في ابتداع قواميس ومعاجم معقدة للغاية، من قبيل الكفايات والمهارات والمصوغات والمجزوءات والوضعيات وأخيرا (وليس آخرا) الملكات وما إلى ذلك... إلى درجة جعلتنا ننسى أننا -بكل بساطة- إزاء شىء اسمه المدْرَسة، يلجها الأطفال من أجل التحصيل وامتلاك مجموعة من المعارف تؤهّلهم لأن يصبحوا فاعلين إيجابيين في محيطهم الوطني والعالمي، متمكنين من العلوم (بمعناها الواسع وحسب كل تخصص) قادرين على التعبير عن مواقفهم وآرائهم بلغة سليمة وبناء فكريّ متماسك.


وإذا أصبح الكل اليوم يتحدّثون عن انخفاض المستوى لدى المتعلمين، إنْ على مستوى التعبير والفهم والإملاء، أوعلى مستوى التمكن من العلوم (انظر نتائج الروائز الدولية التيمس والبيرلز الأخيرة) ورغم نسبية هذا الرأي، فإنه لا بد من الإقرار بأنّ تلامذتنا باتوا يعانون «فقرا» فكريا مذقعا على مستوى رصيدهم من المعارف اللغوية والمفاهيم العلمية التي ينبغي أن يمتلكوها عند نهاية كل سلك من الأسلاك التعليمية الثلاثة.. فكيف نريد أن يكون تلميذنا عالِماً بما لم نعلّمه إياه؟ وكيف نريده أن يكون مُعبّرا ونحن لم نمُدّه بوسائل التعبير؟ وكيف نريده واصفا ونحن لم نقدم له أداة الوصف؟.. فكأننا نريده، كما يقول الأستاذ أحمد الأخضر غزال، أن يحسب دون تعليمه الحساب!

إنّ العودة إلى الأساسيات، حسب تعبير الباحث اللساني بنتوليلا، أمر قد يكون مفيدا لمدرستنا ولمنهجنا التعليميّ في الوقت الحالي أكثرَ من أي وقت مضى، وهذه الأساسيات هي، بكل بساطة: التعبير والحساب والقراءة.وفي الختام، لا بد من التذكير بشيء أساسيّ يهمّ المدرسة والمُدرّسين: أولا لا بد أن نعيد الاعتبار للمدرسة من خلال إيلائها المكانة التي تستحقها داخل المجتمع والرجوع بها إلى أداء أدوارها الأساسية في تلقين المعارف وتربية النشء، ثانيا، لا بد أن يتعزّز الاهتمام بالمُدرّسين من خلال تكوينهم تكوينا أساسيا متينا، مع إعطائهم الحرية بعد تخرجهم لإعمال ذكائهم عند اختيار هذه المقاربة أو تلك، بعيدا عن منطق الإملاء أو الإلزامية.

كما أنّ الابتعاد عن الإكثار من «الميتالغة» والأنساق المفهومية النظرية البرّاقة، مِن شأنها أن تعيد الحياة إلى المُدرّسين وتبعث الروح في الدور التلقيني - التكويني للمدرسة، بدلا من حصر مهمّتها في لعب دور الوساطة بين الطفل وذاته.



ب. أبو أمين
باحث في التربية





تعليقات

المشاركات الشائعة