حديث التعليم في المغرب



منذ خطاب الملك، في الصيف الأخير، الذي جعل التعليم في المغرب «حصيلة وآفاقا»، وكان بحق قرعا لجرس الإنذار بفساد المنظومة التعليمية في المغرب وتوجيه العناية إلى وجوب الانكباب الجدي على الأخذ بالإصلاح الشامل لتلك المنظومة سبيلا إلى الخروج من الأزمة.. منذ ذلك الخطاب عاد حديث التعليم ليملأ الساحة المغربية. وكان الأمر كذلك لأن من مقتضيات استكمال الدستور المغربي الحالي لأدواته التشريعية الكبرى إحداث مجلس أعلى يرجع إليه الأمر في التخطيط الأسمى للتعليم في المغرب.
جرى تعيين الملك لرئيس المجلس المذكور، ولم تصرف العناية بعد إلى وضع الأسس والآليات التي تسمح بوجود تمثيلية وطنية في المؤسسة الخطيرة، ولكن هذا ليس موضوع حديثنا اليوم، ونحن نفترض أن التحضير لتركيب المجلس المشار إليه موضع عناية جدية، وعلى كل فكل آت قريب، وأمنيتي أن يتم الاهتداء إلى إفراز التشكيلة المناسبة التي تقدر على التوفيق بين مقتضيات التمثيلية السياسية الواجبة والضرورية، إذ يتعلق الأمر بقضية في مثل خطورة أهمية التعليم من حيث كونه يتعلق بإعداد مواطني المستقبل وبإيجاد حلول ناجعة لقضايا عسيرة ليس الشغل بالنسبة للشباب العاطل عن العمل بأقلها شأنا ولا أكثرها خطورة، وبالحضور الطبيعي للمجتمع المدني، من دون التفريط - بطبيعة الحال - في التمثيل الكافي لرجال التعليم ونسائه من مختلف مراحل التعليم (الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، والعالي) من جانب أول، وللمسؤولين عن التأطير البيداغوجي والإداري من جانب ثان، من دون أن نغفل، من جانب ثالث مشاركة أهل الفكر والتنظير ممن يعرف عنهم انشغال بالفكر والإنتاج العلمي بقضايا التربية والتكوين في مختلف أسلاك التعليم وفي تنوع مجالاته. ما يعنيني اليوم من أمر التعليم وحديثه في المغرب هو ما أعتبره توطئة أو تمهيدا ضروريا للخوض في قضية محورية تتصل بالوجود المغربي في مستويات عديدة من هذا الوجود. أود أن أقف وقفة تذكير وتذكر بجملة معطيات بديهية في ذاتها.
المعطى الأول هو أن التعليم، بالنسبة لشعوب الأرض جميعها، أمر يستوجب وقفة للتأمل وإعادة النظر في مراحل من تطور الأمم والشعوب، ويستدعي ذلك كلما عرفت الإنسانية أشكالا من التطور المعرفي والتكنولوجي الذي يستوجب إشراك المدرسة والجامعة. لا نعرف أمة من الأمم العظمى لا تنشغل بأمر هذه المواكبة الطبيعية لما يحدث في المعرفة وسبل تلقيها من تغيير، ولا تكاد توجد أمة متحضرة يكون فيها التعليم وما يتصل به خارج المجال المنظور، ولو أننا استمعنا إلى أحاديث الفرنسيين التي ترجع إلى شؤون التربية والتكوين لجاز القول من الملاحظ المتسرع إن فرنسا لا تقف عند أعتاب كارثة عظمى، بل إنها تغرق فيها فلا تعرف كيف تطلع منها.
إذن فمن غير الجائز أن نطرح المسألة التعليمية في المغرب في صورة كارثية. وليس من العدل في شيء أن نكيل كل أصناف التهم إلى المدرسة المغربية وإلى التعليم العمومي في المغرب. قد يكفي أن نذكر في هذا الصدد أن المدارس الكبرى التي تحرص الحرص كله على الانتقاء في اختيار الملتحقين بها في فرنسا (في حدود النسب المئوية الضئيلة التي تخصص للوافدين من دول أفريقيا) لا يقال عنها إنها تحمل على التشاؤم، وإني أجد من الشجاعة الأدبية أن نقول إن العكس يكون في بعض الأحيان هو الصحيح. غير أن هذا لا يعني، في مقابل ذلك، أن نستكين إلى دغدغة العواطف وإلى الأحلام الوردية، ذلك أن ضعف المنظومة التعليمية في المغرب الحالي واقع في حاجة إلى أن يرتفع ويزول، كما أن المردودية هزيلة، فهي أبعد ما تكون عن المطلوب، بيد أن المرفوض عندنا هو جلد الذات بكيفية مازوخية مرضية. إذن فأول ما يلزم الأخذ به هو الصدور من منطلق الثقة والأمل، مع الشعور بثقل القضية وجسامتها، ومع التقدير لصيحة التحذير والإنذار حق قدرها.
المعطى الثاني شمولي وإنساني أيضا، فليس مقتصرا على أمة دون غيرها، ولا على شعب دون آخر، وليس مما يخص دول الجنوب أو الدول خارج سرب الدول التي توجد في مقدمة القافلة. أقصد بذلك أن التعليم قضية استراتيجية عظمى، محورية وهيكلية في حياة الأمم والشعوب. ربما كان إجمال القول في هذا المعنى هو الجملة التي تنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) «نعد اليوم لرجال الغد أطفالا علينا تربيتهم». في عبارة أخرى، معاصرة، يصبح السؤال كما يلي: أي إنسان هذا الذي نريده للغد؟ وأي مواطن هذا الذي نعده للعيش الكريم في وطنه غدا؟ فأما إنسان الغد فالأمر فيه يستوجب إعداد إنسان يمتلك عددا معلوما من الكفاءات والمهارات تتوافق مع مراحل عمرية معينة، فالمطلوب أن يكون التلميذ في الحادية عشرة من عمره يمتلك من المعارف الرياضية والعلمية ومن القدرة على التعبير والكتابة (في مستوى معلوم) ما يعادل المستوى الذي يكون للأطفال في مختلف مناطق العالم. والشأن ذاته بالنسبة لكل أطوار التلقي المدرسي. وهناك معايير دولية تحددها المنظمات العالمية للتعليم والصحة والبيئة وما إلى ذلك.
أما طفل اليوم، الذي يحيا في بلد سيكون فيه في الغد المنظور مواطنا مسؤولا له حقوق وعليه واجبات تجاه هذا البلد ومواطنيه، فالشأن فيه أن يكون إعداده على نحو يمكنه من وعي هذه المواطنة والتشبع بمكوناتها ومضامينها. في هذا المستوى من النظر تطرح القضية المحورية التي تكون القضية الأساسية التي تشد إليها القضايا الأخرى. ولو شئنا أن نستعير من المدرسة البنيوية مصطلحها لتحدثنا عن العنصر الفاعل في البنية الذي يرجع إليه تحديد البنية برمتها. هذا العنصر الفاعل في البنية أو القضية الأساسية أو الخط الأحمر الذي يخترق المكونات الكلية أو اللحمة التي تشد عناصر البنية إلى بعضها البعض هو الهوية الوطنية. عند هذا المستوى من النظر يلزمنا أن نعي أن السؤال الأول في استراتيجية التعليم (أو السؤال الاستراتيجي اختصارا في القول) هو سؤال الهوية. تتضح عناصر الإجابة بالقدر الذي يتضح فيه معنى الهوية الوطنية ومكوناتها، وهذا من جهة أولى، ويكون فيه الوعي كاملا بالنموذج الذي نبتغيه للمواطن في عالم الغد في النواحي التي تتصل بالمعرفة والتكوين وعلى نحو يكون فيه المواطن إنسانا نظيرا من مواطني الهويات الأخرى في العالم.
سعيد بنسعيد العلوي







تعليقات

المشاركات الشائعة