من مذكرات معلم مع مفتش




أذكر أن ذلك اللقاء التربوي الذي انعقد ذات خميس كان النقطة التي أفاضت الكأس بيني وبين مفتش اللغة العربية ، دخل القسم الذي حولناه إلى قاعة للاجتماعات بمدرسة كعب بن زهير ، وتلفت يمنة ويسرة قبل أن يشير إلى أحد المعلمين إشارة مهينة يأمره من خلالها بمسح السبورة ، جلس قبالة جمهور المعلمين الذين تقاطروا زرافات ووحدانا من الجبال المجاورة لمرنيسة ، وافتتح حديثه بالهجوم عليهم ... لاحظت أنكم لا تؤدون واجباتكم كما ينبغي وهذا التسيب لا يروقني ... كل الدفاتر التي اطلعت عليها خلال زياراتي المتكررة للأقسام توحي بأنكم لا تفعلون شيئا إنني أحذركم ...

لم يكن لكلامه أدنى علاقة بالتربية والتعليم ... ذكرني في حديثه بتحذير "بوش "وسلفه "كلينتون" للعراق ... انتظرت أن يرد عليه أحد المعلمين دون جدوى ... وفي الطاولة المقابلة لمكتب المفتش لمحت معلمين يهزان رأسيهما بعد كل كلمة يقولها كما يجدر بتلميذين نجيبين ... سميتهما فيما بعد عباد المفتش ... طال انتظاري ولم يتكلم أحد ... أخذت الكلمة ونبهت المفتش إلى أنه بالغ في الهجوم على جثث فارقت الحياة منذ أن انتقلت إلى آخرة التعليم ، وأبديت بعض الملاحظات حول صعوبة تطبيق المنهاج التربوي الذي صممه مهندسو الرباط في بوادي مرنيسة ... لم يرق حديثي معظم المعلمين فهبوا يذودون عن المفتش وعن التراب الذي تطؤه أقدامه ، ونصبوا أنفسهم مدافعين عن كرامة وزارة التربية الوطنية التي أسأت إليها بكلامي الفارغ ، فأكبرت شجاعتهم ...

أيام قليلة بعد الاجتماع تناهى إلى مسامعنا أن المفتش يشن حملة شرسة على المعلمين ... وأنه يتعمد إهانتهم أثناء زيارته لهم ... عقدنا اجتماعا طارئا في بيت أحد الزملاء وقر قرارنا على الرد على المفتش المتطاول الذي أساء إلى أسرة التعليم بالمنطقة كتبنا عريضة نحتج فيها على سلوك المفتش العدواني والمهين ورحنا نجمع التوقيعات متنقلين بين جبال مرنيسة وتلالها ... لا أدري كيف وصل الخبر إلى المفتش فأرسل إلي مدير المجموعة التي أنتمي إليها ، عشيتها كنت أهم بركوب دراجتي للتوجه إلى المدرسة ، فاستوقفني متصنعا الضحك ... رويدك منذ مدة طويلة لا نراك ... فاجأتني نبرته لكنني حافظت على هدوئي وأنا أجيبه بأن مشاغلي كثيرة فلا تتهيأ لي لذلك فرص لقاء زملائي في العمل ، ... قال لن نجد إذا أفضل من هذه الفرصة ، أجبت متذمرا كما تعلم هذا وقت عمل لا يمكن أن أتأخر عن القسم ، اقترب مني كمن سيلقي إلي بسر خطير وقال بصوت يشبه الهمس ، السيد المفتش ينتظرك بمقهى الفردوس...

قلت في سري ما دام قد دخل إلى الفردوس فسيحولها إلى جحيم ، تصرفت وكأنني لم أسمع شيئا ... حييت المدير ، وامتطيت دراجتي محاولا الانطلاق ، أمسك بي المدير من ذراعي وألقى يمين الطلاق على زوجته إن لم أصحبه إلى المفتش ، رضخت على مضض ، وتوجهت إلى مقهى الفردوس حيث وجدت المفتش في انتظاري، ما إن وصلت حتى وقف للترحيب بي ... لم أفهم شيئا مما يدور حولي ... تفضل آسي يوسف .. لا يعني أن نحمل أفكارا مختلفة أننا أعداء ... الاختلاف رحمة ... قاطعه المدير قائلا نعم ... نعم ولولا الاختلاف ما كان التطور ... لم أعد أسمع شيئا من كلامهما ... سألني المفتش إن كنت أريد أن أشرب شيئا فلم أجب فكرر الطلب مرات ومرات إلى أن انتبهت إلى أنه يخاطبني فأجبته بالنفي لكنه أصر وأقسم بأغلظ الأيمان أن أشرب شيئا ما ... وأمر النادل بأن يحضر لي عصير برتقال ... ساد بيننا صمت ثقيل قبل أن يتدخل المدير ليبدد حيرتي ...

السي يوسف سمعنا بأن هناك مجموعة من المعلمين تعتزم التقدم بشكاية ضد السيد المفتش لدى نيابة وزارة التربية الوطنية ، ... على العموم هذه الحركات لا تجدي نفعا لن تجر على أصحابها غير الويلات ، قلت بهدوء .. والمطلوب مني الآن ... كان المفتش لحظتها واجما وكأنما أوكل مهمة التفاوض القذر للمدير الذي كان من الصنف المستعد لبيع كل شيء في سبيل مصالحه ...

رد المدير والكلمات تندلق من بين شفتيه محدثة فحيحا كفحيح الثعبان ... نعلم أنك شاب طيب وأنك لا يمكن بحال أن تكون ضمن هذه الزمرة من المتآمرين . أقسم بالله العظيم أن المفتش كان يثني عليك قبل مجيئك ... وقد اقترح علي أن يزورك وأن يمنحك أعلى النقط وسيمكنك ذلك لا محالة من الانتقال إلى أي مدرسة شئت داخل الإقليم ... قلت متأففا لم أفهم قصدك بعد ... ويبدو أن المفتش قد ضجر حينها من مقدمات المدير التي لا تنتهي فتدخل موضحا ، نريد منك أن تقنعهم بأن عملهم هذا لا طائل من ورائه أو على الأقل قل لنا من هم متزعمو هذه الحركة وسنعمل نحن على إقناعهم بالتراجع عن هذه المواجهة الخاسرة ... أراد الكلب تحويلي إلى معول لهدم نضال زملائي من أجل حقهم المشروع في المعاملة التي تليق بهم كمربين للأجيال ...

قلت لنفسي كلا و ألف كلا لن ألعب هذا الدور القذر ، نهضت بسرعة والكلمات تندفع من فمي محدثة صخبا هائلا لفت إلينا انتباه رواد المقهى ... أنا أول الموقعين على هذه العريضة ... وكلنا مصممون على مواجهتك حتى النهاية ... كنت البادئ والبادئ أظلم ، فلتحصد نتيجة إهاناتك المتكررة لنا ... تركت الطاولة بعد أن أديت ثمن العصير وشيعني المفتش بنظرات مندهشة إلى أن غادرت المقهى ...

من ضمن مئات المعلمين لم يقتنع غير خمسة عشر معلم بالتوقيع على العريضة ... قمنا بتسليمها لأحد مسؤولي النقابة ، وانتظرنا نتائج نضالنا لمدة شهر كامل بين الجبال الشاهقة على أحر من الجمر ولم تتأخر النتائج ، حصل المحتجون على إنذارات شديدة اللهجة من نائب وزيرة التربية الوطنية بإقليم تاونات ، وتمكنت نقابتنا لا أطال الله في عمرها من إلحاق زوجة أحد مسؤوليها بمدرسة في قلب مدينة تاونات وكان قد استعصى عليها ذلك زمنا إلى أن ساومت النائب بجهدنا ومعاناتنا وحصل أولئك الذين رفضوا التوقيع على العريضة على وسام من درجة حمار صبور سيزين صدورهم أبد الدهر..

يوسف الحلوي








تعليقات

المشاركات الشائعة