كارثة وطنية اسمها.. التعليم






حينما كشف وزير التعليم عن عدد الشواهد الطبية، التي أدلى بها العاملون في قطاع التعليم خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، أصيب الناس بالفزع، لأنهم لم يكونوا يتصورون أن الفساد الكبير الذي ينادون بإسقاطه يوجد أيضا في أكثر القطاعات أهمية وحساسية: قطاع التربية والتعليم. عدد التغيبات بسبب الشواهد الطبية في قطاع التعليم بلغ قرابة 55 ألف يوم في أقل من نصف سنة.

 وإذا أكملنا السنة سنتجاوز المائة ألف. هذا شيء رهيب لا يحدث حتى في البلدان التي تعاني من حروب أو كوارث طبيعية. فعندما تقصف إسرائيل الفلسطينيين، صباح مساء، وتدمر منازلهم ومدارسهم، يخرج المعلمون والتلاميذ إلى قارعة الطريق ويجلسون على الأرصفة ويكملون الدروس. نحن لا أحد يقصفنا، لا إسرائيل ولا المغول، لكننا نقصف أنفسنا بسادية رهيبة ونصنع للأجيال المقبلة مستقبلا قاتما بسبب هذه الأنانية المفرطة التي سكنتنا. في منطقة الأمازون بأمريكا اللاتينية يجتمع التلاميذ تحت الأشجار ويتلقون تعليمهم بينما القردة تقفز فوق رؤوسهم. وفي جنوب شرق آسيا، حيث الأنهار والبحيرات بلا حد، يتلقى التلاميذ دروسهم في القوارب أو على ضفاف الأنهار. نحن فقط الذين تبقى مدارسنا خاوية بينما المعلمون والأساتذة يستمتعون بشواهدهم الطبية، التي يعرف الجميع كيف يمكن الحصول عليها. في مدارس مغربية كثيرة بقرى نائية تم تسجيل سنوات بيضاء لأن المدرسين يتغيبون باستمرار، وفي حالات أخرى كثيرة يتم تزوير نسب النجاح والانتقال حتى لا يتم كشف المسؤولين الذين لم يزوروا يوما تلك المدارس. وفي مدارس أخرى يوجد تلاميذ درسوا، نظريا، حتى القسم الخامس، بينما لا يعرفون شكل حرف الألف ولا ملامح حرب الباء. النفاق حول قطاع التعليم يجب أن يتوقف فورا، والعقاب يجب أن يشمل الجميع، بمن فيهم الأطباء الذين يوزعون الشواهد الطبية يمنة ويسرة، فالقضية قضية شعب وليست قضية أشخاص سكنتهم الأنانية إلى هذه الدرجة المفرطة، فعطلة التعليم هي الأطول في المجموعة الشمسية كلها، ومع ذلك لا تكفي. وإذا أضفنا إليها الإضرابات سنجد أنفسنا في قلب الكارثة. في المغرب مدرسون يحرقون دمهم من أجل تعليم أبناء المغاربة، وفي المغرب أيضا مدرسون يحرقون مستقبل شعب بكامله لأنهم لا يعرفون معنى المسؤولية. وهكذا تحول الكثيرون منهم إلى سماسرة في الأراضي والعقارات والسيارات، وكل واحد منهم يكون له موعد مع زبون يستخرج شهادة طبية. ماذا نقول، إذن، لأولئك المدرسين المتفانين في عملهم، الذين يحترقون لأداء واجبهم، والذين يراوغون مشاكلهم وأمراضهم ومعاناتهم لكي يكونوا حاضرين في أقسامهم كل صباح؟ ماذا نقول لهم وهم يرون زملاء لهم بلا ضمير احترفوا استخراج الشهادات الطبية والتفرغ لأعمال أخرى أو حل الكلمات المتقاطعة في المقاهي؟ وإلى متى يطول صبرهم أمام هذا الواقع المر؟ هناك مدرّسون صاروا يوزعون أوقاتهم بين وظيفتهم العمومية، التي يتلقون عنها رواتبهم من جيب الشعب، وبين العمل في المدارس الخصوصية، وحين صدر قرار وزاري من أجل منع ذلك، انتفضت النقابات التي صارت تدافع عن النفاق والاحتيال أكثر مما تدافع عن مصالح البلاد. والمصيبة أن الناس صاروا يعرفون أين يقضي النقابيون الأشاوس أوقاتهم، التي كان يجب أن يقضوها في الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للتعليم. في ظل هذا الواقع السوريالي تزدهر المدارس الخصوصية، التي يقول أصحابها إن معلميها لا يتغيبون ولا يضربون عن العمل ولا يصابون بأي أنفلونزا.

لكن هذه المدارس، التي ركبت على بؤس التعليم العمومي، غرقت بدورها في بؤس خاص. المدارس الخصوصية هدفها الربح المادي، وهي اليوم تتسابق لكي تبدو كل مدرسة أفضل من غيرها، وكل واحدة تحاول الرفع من سقف التعليم، ليس من أجل عيون التلاميذ، بل فقط لكي يقال عنها إنها جيدة. وهكذا صار التلاميذ يتلقون الفرنسية وهم مازالوا ملفوفين في حفاظاتهم، وقبل أن يرتد إليهم طرفهم يتم قصفهم بالإنجليزية. هكذا تحولت تلك الرؤوس الصغيرة للأطفال مثل كرة تنس تتقاذفها المصالح والأهواء، وهناك دروس في مستوى الابتدائي يستحيل أن يفهمها تلاميذ صغار حتى لو ولدوا بمخ «آينشتاين». الأمم تصنع مستقبلها بالتعليم، ونحن، منذ الاستقلال وحتى اليوم، نبذل مجهودات جبارة لكي ندمر التعليم تدميرا. إننا شعب يحفر قبره بيده.

عبد الله الدامون      

تعليقات

المشاركات الشائعة