ظاهرة العنف بالمؤسسات التربوية في حاجة ماسة إلى معالجة عوض مجرد الإدانة
جرت
العادة في وطننا ألا نتطرق إلى الظواهر السلبية التي تغزونا إلا بعد
فوات الأوان ووقوع ضحايا وخسائر. وهذا ما حدث بالضبط مع ظاهرة العنف في
المؤسسات التربوية التي لم يتم الانتباه إليها إلا بعد حادثة مدينة سلا ،
مع أن مدنا أخرى عرفت مثل حادثة سلا مرارا وتكرارا . والناس يشجبون
ويدينون العنف في المؤسسات التربوية عندما يتجسد في جهة من الجهات ومن
خلال حادثة منفردة ، ثم ينسى بعد ذلك هذا العنف ، ويهمل مع أنه ظاهرة
يومية لا تخلو منها مؤسسة تربوية بحكم تجمع أعداد كبيرة من المتعلمين
المختلفي المشارب السيكولوجية والتربوية في المؤسسات التربوية .
ولم تفكر الوزارة الوصية لحد الساعة في إجراءات فعالة لمعالجة ظاهرة
العنف في المؤسسات التربوية باستثناء استصدار مذكرة تنظيمية تمنع العنف
بنوعيه المادي والمعنوي بالمؤسسات التربوية والصادر عن كل من له
علاقة بها دون تمييز بين مدرس أو متعلم أو إداري . وباستثناء هذه
المذكرة لا توجد إجراءات علاجية فعالة لمحاصرة ظاهرة العنف التي صارت
واقعا يوميا يمارس من طرف كل من لهم علاقة بالمؤسسات التربوية على اختلاف
مهامهم ووظائفهم فضلا عن المتعلمين .
ومن المعلوم أن المؤسسات التربوية هي
مؤسسات توفر الأجواء المناسبة لتحقيق النمو الجسدي والعقلي والوجداني
للمتعلمين في مختلف الأعمار . وهي مؤسسات تكمل الدور التربوي لباقي
المؤسسات التربوية خصوصا مؤسسات الأسر الحريصة على تربية ونمو أبناءها
ولكن في غياب تمثل صحيح لطرق وأساليب التربية الناجعة . ومن المشاكل
التي تعاني منها المؤسسات التربوية التي تمارس التربية عن طريق أساليب
التعليم استقبالها لمختلف شرائح المتعلمين الذين يفدون عليها بأرصدة
تربوية متفاوتة حسب مستويات أسرهم الاجتماعية . وتمثل المؤسسات التربوية
البوتقة التي تصهر كل أنواع التربية الوافدة عليها من
خلال اعتماد تربية نظامية موحدة لا تراعي الفوارق بين المتعلمين باعتبار
انتماءاتهم الأسرية .
ومن المعلوم أيضا أن حجم التأثير الذي تحدثه
التربية النظامية الواحدة في المؤسسات
التربوية في الشرائح الخاضعة لها يكون رهينا بأساليب التعليم
والتلقين حيث تراهن التربية النظامية على هذه الأساليب من أجل تحقيق نمو
المتعلمين المعرفي والوجداني والحسي الحركي . وقد تسهم البرامج
التعليمية في تحقيق أنواع من هذا النمو ومن تم تحقق نسبا معينة من
التربية، إلا أن ذلك قد لا يكون كافيا لتحقيق الأهداف المنشودة من
التربية المخطط لها رسميا . وغالبا ما يوجد اختلال في نمو أو تربية
المتعلمين بحيث لا يساير نموهم المعرفي نموهم الوجداني . ومعلوم
أن النمو الوجداني هو أصعب أنواع النمو ، وقد لا يتأتى عن طريق البرامج
التعليمية كما هو الحال بالنسبة للنمو المعرفي ، والنمو الحسي الحركي .
والوجدان هو الجانب الأكثر غموضا في شخصية الإنسان ، وهو خاضع لما
هو وراثي من الصعب التحكم فيه، لأن الهدوء وشدة الانفعال والانفتاح
والانغلاق ، ومختلف أنواع السلوكات الموروثة لا يمكن التحكم
فيها بسهولة ويسر عن طريق البرامج الدراسية .
وقد تستطيع المناهج
التربوية الدراسية أن تقرب المسافات المعرفية والحسية الحركية
بين المتعلمين الأذكياء والموهوبين ومن دونهم ذكاء وموهبة إلا
أنها تعجز عن تقريب الفوارق بينهم وجدانيا . ولما كان العنف سلوكا
مرتبطا بالوجدان ، فإنه من الصعب السيطرة عليه من
خلال المناهج والبرامج التربوية التي تعتمد أساليب التعليم . ولهذا لا
بد أن تفكر الوزارة الوصية عن الشأن التربوي في أساليب أخرى من أجل
تحقيق النمو الوجداني السليم للمتعلمين . ولا بد من توفير الخبرات
السيكولوجية في المؤسسات التربوية على غرار باقي الخبرات المتوفرة فيها من
أجل رصد وجدان المتعلمين خاصة المرتبط بظاهرة العنف . فإذا كانت الوزارة
الوصية توفر للمؤسسات التربوية الموجهين التربويين الذين يوجهون
المتعلمين تعليميا ، فعليها أن توفر أيضا موجهين سيكولوجيين يوجهونهم
نفسيا ووجدانيا خصوصا عندما تسجل الاختلالات الوجدانية المؤثرة في
السلوك . وفي اعتقادي أن استفحال العنف في المؤسسات التربوية
مرده سوء فهمه كظاهرة الشيء الذي يترتب عنه سوء التعامل
معها لأن فعاليات المؤسسات التربوية لا تملك الخبرات اللازمة للتعامل
مع هذه الظاهرة المعقدة .
ومن الأخطاء الجسيمة أن يتم التعامل مع ظاهرة
العنف بالمؤسسات التربوية كظاهرة العنف في المجتمع حيث تحال
الظاهرة في الغالب على القضاء ليبث فيها، الشيء الذي يدل على عجز وقصور
المؤسسات التربوية عن إيجاد آليات خاصة بها لمعالجة هذه الظاهرة . وفي
الغالب عندما تسجل حالة عنف بمؤسسة تربوية ينقسم الوسط التربوية بها
إلى أنصار يتعصبون لضحية العنف ، وأنصار يؤيدون ممارس العنف. وقد ينشأ
عن ذلك صراع وعداوة بين الطرفين. والحقيقة أن عقلية التضامن أو
التعاطف مع أحد طرفي العنف سواء من يمارسه أو من يقع ضحية له لا يمكن
أن يساهم في معالجة ظاهرة العنف التي لا تنشأ من فراغ ، بل لها أسباب لا
بد من البحث فيها بدقة قبل الخوض في التضامن أو
التعاطف أو الإدانة والشجب .
فظاهرة العنف في حد ذاته هي نتيجة حتمية
لانعدام الحوار . فعندما يصل الحوار إلى طريق أو نفق مسدود يحل
العنف محله سواء كان ماديا أو معنويا . والذين يتحدثون عن العنف داخل
المؤسسات التربوية يعزلون حوادثه عن سياقها ، علما بأنه من غير
الممكن فهم هذه الحوادث خارج سياقها . فالاعتداء الجسدي هو عنف لا
يمكن أن يولد من فراغ ،بل لا بد أن يكون له سياق .
فعندما يصدر العنف
الجسدي على سبيل المثال عن مدرس على متعلم لا شك أن هذا الأخير يكون قد
سلك سلوكا غير مقبول داخل الفصل الدراسي ، ويكون هذا السلوك قد تجاوز
عتبة الحوار أو أهدر فرصته أصلا . ومع تعذر أو تأخر المساطر المطلوبة
عند وقوع مثل هذا السلوك ،لا يجد المدرس أمامه سوى اللجوء إلى
العنف لتصحيح هذا السلوك حسب اعتقاده . كما أنه عندما يحدث
العكس حيث يمارس المتعلم العنف على مدرسه لا شك أن ذلك لا يحدث
دون سوابق من المدرس قد تكون مبررة تربويا ، وقد لا تكون كذلك . في
غياب فرصة الحوار التي هي فرصة مراجعة للذوات يكون العنف هو رد
الفعل المباشر.
والنظرة الموضوعية والمحايدة إلى العنف داخل المؤسسات
التربوية تقتضي أن ينظر إلى ممارسي العنف وضحاياه سواء كانوا من
طاقم التربية مدرسين وإداريين أم من المتعلمين على أنهم جميعا ضحايا
العنف ، ما دام ممارس العنف يكون بداية ضحية استفزاز لا محالة . أجل قد
يكون الاستفزاز وهو فعل دون حجم العنف الذي هو رد فعل ، ولكن لا يمكن
أن نعتبر ضحية رد الفعل كذلك دون اعتبار صاحب الفعل أيضا ضحية .
ومعلوم
أن العنف يتساوى شطراه العنف المادي والعنف المعنوي ، ولا مبرر لاعتبار
العنف المعنوي دون العنف المادي خطورة ، لأن العلاقة بينهما هي علاقة
جدلية أي علاقة تأثر وتأثير . وكل منهما يلعب دور الفعل ورد الفعل في نفس
الوقت ، وهما دائما يتبادلان الأدوار بينهما. وقد لا ينتبه بعض المنتمين
إلى الحقل التربوي إلى أنواع خفية من العنف التي يتولد عنها العنف
المادي المشهور. فعندما تغلق الإدارات التربوية على سبيل المثال
بوابات المؤسسات في ساعة الدخول الأولى الصباحية أو الزوالية تعتقد
أنها تقوم بعملية ضبط الزمن المدرسي وزمن التعلم إلا أنها لا يخطر
ببالها أنها تمارس نوعا من العنف دون شعور منها، لأن أعدادا كبيرة من
المتعلمين يكونون ضحايا تأخر وسائل النقل العمومية مثلا أو غيرها ،
لهذا يعتبر حرمانهم من الوصول إلى فصولهم الدراسية نوعا من العنف يتولد
عنه كرد فعل عنف مقابل ربما ضد البوابين أو حراس الأمن المدرسي . أجل قد
يكون تأخر بعض المتعلمين مجرد تلكؤ غير مبرر، ولكن لا يمكن أن ننكر
أن البعض الآخر يكون ضحية ولا يمكن أن يعامل معاملة متعمدي التلكؤ .وحتى
التلكؤ قد تكون له أسباب منها طبيعة المواد الدراسية أو أمزجة من
يدرسونها أو غير ذلك، لأن التلكؤ لا ينشأ من فراغ أيضا . وقد يكون
المتعلمون المتأخرون عن مواعيد الدراسية ضحايا أوساطهم الأسروية دون أن
يحس المسؤولون عن المؤسسات التربوية بذلك . ولا توجد مؤسسة تربوية تتوفر
على خبير سيكولوجي يفحص ظاهرة التأخر اليومية في المؤسسات التربوية
لتصنيفها ومعرفة الأسباب الكامنة وراءها قصد معالجتها معالجة حقيقية عوض
الاكتفاء بأساليب التعنيف المتداولة في مؤسساتنا حاليا وهي من أسباب
نشوء ظاهرة العنف .
وغالبا ما تكون نتيجة استفسار المربين للمتعلمين
المتأخرين بأساليب استفزازية هي ردود أفعال عنيفة من المتعلمين . ومن
العنف الذي قد لا يلقي إليه المربون بالا إخراج المتعلمين من الفصول
الدراسية وحرمانهم من الدروس بسبب عدم إحضار اللوازم المدرسة أو بسبب
الشغب والعبث أو عدم الانتباه أو غير ذلك مما يستفز
المربين فيمارسون عنف إخراج المتعلمين من الفصول أو عنف حرمانهم
من الدروس، الشيء الذي يتولد عنه أيضا العنف كرد فعل مباشر لعنف لا يلقى
له بال .
وقد لا ينتبه المربون أيضا إلى نوع خاص من العنف وهو
عنف سببه صعوبة اختبارات فروض المراقبة المستمرة حيث يعتبر
المتعلمون ذلك استفزازا لهم ، فتكون لهم ردود أفعال منها محاولة الغش أو
محاولة الاخلال بالنظام طمعا في إلغاء الفروض أو تراجع المدرسين عنها ،
وتكون النتيجة في الغالب عنفا ماديا من طرف المدرسين أو من طرف المتعلمين
. ومن أنواع العنف الخفية التي لا يلقى لها بال أيضا ضعف
العلاقات التربوية والإنسانية أو غيابها بين المدرسين والإداريين من
جهة ، وبين المتعلمين من جهة أخرى حيث تسود الكراهية بين الطرفين ، وهو
ما يجعل الأجواء مشحونة ، وقابلة للانفجار في كل لحظة. وغالبا ما يكون
العنف المادي نتيجة تراكم التشنجات بين الطرفين . ومن العنف أيضا التحرش
الجنسي الصريح والمكني حيث تكون لضحاياه ردود أفعال عنيفة باعتبار
التحرش استفزازا أو عنفا. ومن أسباب العنف أيضا المعاملات غير المتوازنة
بين المتعلمين حيث يحرم البعض مما يستفيد منه غيرهم ، فيكون ذلك
سببا في استفزاز ينتج عنه عنف مادي مباشر .
فإذا سمح على سبيل المثال
لبعض لمتعلمين بالدخول مع تأخرهم عن الموعد دون غيرهم ، فإن ذلك يحز في
نفوس المحرومين فلا يجدون سوى العنف وسيلة للتعبير عن سخطهم وغضبهم .
وما أريد أن أخلص إليه أنه لا يوجد عنف ينشأ من فراغ ، وبدون أسباب بغض
الطرف عن وجاهتها أو عدم وجاهتها . لهذا لا يجب التعامل مع العنف داخل
المؤسسات التربوية بمعزل عن مسبباته . ولا بد أن ينشأ التفكير الجاد في
مقاربات فعالة لمحاصرته عوض الاكتفاء بإدانته أو
معالجته بالطرق المتداولة اليوم والتي أثبتت عدم جدواها وعدم نجاعتها .
فالمجالس الانضباطية والإحالة على العدالة وحدها لا تكفي للحد من ظاهرة
العنف داخل المؤسسات التربوية ، لهذا لا بد من بحوث علمية جادة من ذوي
الاختصاص من أجل توفير مقاربات فعالة تستأصل شأفة ظاهرة العنف
السلبية من مؤسساتنا التربوية .
تعليقات
إرسال تعليق