التعليم .. كان أبوك صالحا








يعلم قرائي أني لست ممن يحبون السرد في المقال وأجنح إلى التقرير دون الحكي والخبير، لكن أجد نفسي اللحظة عاجزا أمام صياغة مقال مفتتح ببسملة أو بديباجة قوامها تملق وتبجيل لمن سبقوني من الكتاب الذين شحذوا أقلامهم في وخز مواضيع ذات صلة بالتربية. الوخزات التي تلقاها جلمود التعليم عديدة هي تنوعت مواضيع الوخز ولم يستجب هذا الجلمود، وأخيرا وضعوا أقلامهم وكتبوا بقلم واحد لا حياة لمن تنادي.سامحهم الله كانوا فقط يريدون أن تتحرك التربية وتزهر وتتطور علنا نصل إلى مصاف الدول الرائدة منظومتها التربوية. لكن ربما قدر التعليم في المغرب كقدر كرة القدم المسكينة، في كل مرة نعود مهزومين من أرض الميدان وبدل تشخيص مكمن الضعف نقضي الوقت في تبرير الهزيمة ونمني النفس بالمناسبة القادمة، قد يتساءل القارئ الآن ما علاقة التعليم بالكرة؟ في الحقيقة ظاهريا لا توجد علاقة سوى هذه المقولة الجميلة التي كنا نسمعها من مدرس لنا رحمه الله مات بسكتة قلبية وهو يعلمنا ذلك النشيد المشهور "أحبك يا وطني أنت أمي وأبي" المقولة فحواها "لمجات بالقلم تجي بالقدم" القاسم المشترك هو خيبات الأمل التي تخيم على التعليم والتربية وكأن القدر كتب على القلم والقدم الألم.فقط هذه مقدمة لكلام عن التعليم وكان أبوك صالحا بررت من خلالها فشلي في صياغة مقدمة عن الموضوع خالية من الخبير.

التعليم وكان أبوك صالحا، قد يجد القارئ التباسا في البداية في فهم العنوان لهذا سأضطر إلى الجنوح إلى التوضيح من خلال ذكر قصة قصيرة ستكون بابا لما سيأتي من ملامسة منطقية لموضوع المنظومة التربوية في شقها المتعلق بمواردها البشرية، القصة تبدأ برجل أمن وهو يقود رجل تربية إلى مخفر الشرطة بسبب تورطه في تحرش جنسي ضد إحدى متعلماته والغريب في القضية هو أن أب هذا المدرس كان هو الأخر رجل تربية والأغرب كذلك هو أن هذا الشرطي تتلمذ على يد ولد المدرس المذنب فتنهد الشرطي متحسرا وهو يوجه الكلام للضنين قائلا كان أبوك صالحا.

لم تصل المنظومة التربوية إلى ما وصلت إليه اليوم من انحطاط على جميع الأصعدة انحطاط في ما تصدره من قيم وانحطاط في ما تلقنه من علوم ومعارف وانحطاط كذلك في ما تخرجه من ناجحين إن صح التعبير وحتى الذي يعلم فهو الآخر انحطت قيمه وتلاشت معارفه ودب سوس الضعف والهون في عظمه فغدا المدرس يقتل زميله في باحة المدرسة وأصبح المدرس يتحرش جنسيا بمتعلميه وأضحى التلميذ يذبح مدرسه في الفصل، كثيرة هي المحطات التي يموت لها القلب كمدا، حار الفاعلون التربويون في تشخيص مكمن الداء وتعددت تشخيصاتهم فكل يراها من زاويته لست أذكر بها بقدر ما سأفرد الحديث بحسب خبرتي بالحقل التربوي في ذكر سبب العلة علة التعليم مرض المنظومة الأسطوري.

كان أبوك صالحا عبارة نبغي بها تبجيل رجل التعليم الذي تربينا على يديه حيت القيم السامية والأخلاق الرفيعة والجودة في البذل والعطاء والوقار والحشمة والهيبة والطلعة البهية، وهذا تحصيل حاصل فكانت المنظومة بألف خير ولم تكن هناك أزمات ولا مطبات وعيوب قط في التعليم فكل ما كان هناك هو الثناء على رجل التعليم، بهذه العبارة المتداولة التي قلت اليوم "الله يرحم ألي قراك" المضحك المبكي أننا اليوم أصبحنا أمام أزمة حقيقية سببها حلول الطالح مكان صالح الأمس، لا يسعنا في هذا المقال إلا تلاوة اللطيف لعل الله ينظر في حال منظومتنا التربوية العليلة. في الهند حين ما يستشري الفساد في قطاع يقيمون طقوس دينية يتضرعون فيها للسماء علها تمطرهم حلولا ناجعة، ولست استغرب إن سمعت وزير التربية بحكم السنين التي قضاها في الهند أن يدعو يوما المنابر الدينية لإقامة صلات الاستصلاح في المساجد على غرار صلاة الاستسقاء التي تؤدى لما تجف السماء. لم يعد المدرس اليوم ينظر إلى مهنته على أنها مهنة ذات قداسة خاصة توجب على القائمين بها أداء حق الانتماء إليها إخلاصا في العمل، وصدقا مع النفس والناس، وعطاء مستمرا لنشر العلم والخير والقضاء على الجهل،كما أنه لم يعد يعتز بمهنته وتصوره المستمر لرسالته، ينأيان به عن مواطن الشبهات ويدعوانه إلى الحرص على نقاء السيرة وطهارة السريرة حفاظا على شرف المهنة ودفاعا عنها،لقد لوت اليوم رجل التعليم سريرته وأصبح محطة شبهات يتأفف الكل من سلوكياته وأعماله التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه خان ميثاق الشرف إلا من رحم الله من رجال التعليم وهم قلة الذين لا زالوا يحملون لواء شرف هذه المهنة ويجسدون نموذج رجل التعليم الصالح الذي يسعى إلى تقديم نفسه كصاحب رأي وموقف من قضايا المجتمع ومشكلاته بأنواعها كافة، ويفرض ذلك عليه توسيع نطاق ثقافته وتنويع مصادرها. والمتابعة الدائمة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليكون قادرا على تكوين رأي ناضج مبني على العلم والمعرفة والخبرة الواسعة. يعزز مكانته الاجتماعية و يؤكد دوره الرائد في المدرسة وخارجها.

إن من يتوسم فيهم الخير في تربية الأجيال وإعادة الاعتبار لهذه المهنة والمكانة المقدسة التي تستحقها هم مع كامل الحسرة والأسف من جنى على التعليم في بلدنا من هكذا سلوكيات وظواهر مرضية

إن كافة الشرائح المجتمعية تكن فائق التقدير والاحترام لنساء ورجال التعليم الشرفاء الغيورين على الأجيال المتمثلين لقداسة وشرف المهنة كما هم براء من أولائك الذين باعوا شرف المهنة مقابل إشباع نزواتهم الجشعة الشاذة.ومتى وعت الجهات المعنية أن الحل لا يكمن في استراد هكذا بيداغوجيات أو الحاجة إلى لوجستيك فائق الدقة بل الحل يكمن في تشديد الرقابة على رجل التعليم وتفعيل المسطرة المحاسباتية في حقه والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه مصادرة أحلام متعلمينا الوردية وتطلعات بلدنا التواق إلى رؤية أبنائه يشقون سبل التفوق والنجاح بشقيه النظري والتطبيقي.


مراد الصغراوي

تعليقات

المشاركات الشائعة