التعليم الخصوصي.. رؤية من الداخل





التعليم قاطرة الأمم نحو البناء، بناء حضاريّ متميز، يسعى إلى خلق إنسان متفاعل وواعٍ بمحيطه، منفتح على من سواه، ولعلّ من البديهي أنه لايمكن لمنظومة التربية والتعليم أن تتقدم وتؤسس لمشروع نهضوي دون استقلال سياسي واقتصادي. ولعل ما تشهده منظومتنا التعليمية اليوم، من الخسارة وفشل لتوجهاتها الإصلاحية، يرجع بالأساس إلى:

-العامل السياسي:


 لا يخفى على المتتبع ما كان يشكله التعليم في ستينيات القرن الماضي، من أداة توعية ودافع إلى صراع مجتمعيّ، ما حذا بالنظام السياسي إلى  اعتبار هذا القطاع ثورة صدام وتهديد لمصالحه ومصالح النخب المرتبطة به، فعمل على إفراغه من محتواه وصيّره جسما بلا روح، فقد معه التعليم إشعاعه وبريقه وغدا الهمّ الماضي حاضرا في شكاوى رجاله ونسائه، وفي غمرة هذا الأتون تناسوا دورهم الرسالي والقيادي داخل المجتمع، وغدا التعليم حرفة كسائر الحرف أو مهنة من المهن.


-العامل الاجتماعي:
 لا سبيل لنجاح أي منظومة تعليمية إلا بربطها بواقعها الذي تروم خدمته، فلا نفهم كيف يتم استيراد تجارب غربية وإنزالها على واقع المغاربة كقدَر محتوم دون تكليف النفس عناء تمحيصها وتهيئ شروط تنزيلها ومغربتها حتى تنسجم وثقافة المغرب وفكره، لذا جاءت هذه المشاريع الإصلاحية فاقدة الشرعية والتأثير، فغدت نتائجها كارثية..
لهذا على الجميع أن يتحمل مسؤوليته في إصلاح هذا القطاع بدءا بالنظام السياسي مرورا بهيئة التدريس وصولا إلى الأسرة.


نشأة التعليم الخصوصي     
 
لا أحد يماري في كون التعليم الحر -الخصوصي كان استجابة للحظة تاريخية أملتها ظروف الاستعمار، الذي رغب في خلق نخبة مرتبطة به ثقافيا وحضاريا، منفصلة عن أمتها وهمومها.. لهذا رأت المقاومة الوطنية أن سبيل التحرر والإنعتاق ليس رهينا بتحرير الأرض وطرد المستعمر، بل بتحرير الإنسان وصياغته وبنائه، وفق ما يشدّه إلى أرض وطنه، من ثقافة وتراث وتقاليد ولغة ودين، لذا وُلدت فكرة المدرسة الحرة، إنه صوت المقاومة المغربية ورد فعلها ضد «فرْنسة» المجتمع و»غربيته».
توالت السنون، واعترت هذا القطاعَ لحظاتُ مدّ وجزر، حينما انبرت لتدبيره «وجوه» لم يعد الدافع والباعث الأول رهانـَها ولا محركها، بل تدخل رأس المال وأفرد سلطان المال هيمنته، فتبدلت الرؤية وزاغ الهدف.. فغدت المدرسة الحرة مدرسة خاصة، تعرض خدماتها على الأسر التي هالها فشل أبنائها في مسيرتهم التعليمية، فبدت لهم هذه المؤسسات الملاذ والملجأ لأبناء صدّت المدارس العمومية أبوابها في وجوههم.. وفي الآونة الأخيرة، استطاع مدبرو هذا القطاع الخاص أن يستغلوا اللحظة التاريخية السانحة، عند تواري دور المدرسة العمومية وأفول نجمها، فتغوّل القطاع، وأصبح رقما يصعب تجاوزه، خاصة أمام تراجع تنافسية نظيره الرسميّ، لاعتبارات ذاتية وموضوعية.


دواعي الأزمة   
         
إن المصيبة التي حلت بمنظومتنا التربوية التعليمية تكاد لا تفرّق بين تعليم خصوصي ولا عمومي، وإنْ كان حظ هذا الأخير أوفرَ.. لكنّ ما يهمنا في هذا المبحث هو سرد مجموعة من الإشكالات التي يعاني منها التعليم الخصوصي برؤية أحد أبنائه وأطره التربوية. وقد نلخّص مجمل هذه الأسباب في ما يلي، دون النظر إلى المشترك من العوامل بين القطاعين، كضعف المقررات التعليمية وقتل ملكة الخلق والإبداع لدى المتعلم.. كما نضيف القطيعة مع استخدام العقل وهيمنة أسلوب الحشو والتلقين دون الاعتماد على البحث والتحليل والنقد..
إن تشجيع الدولة الاستثماري في المجال التربوي -التعليمي أدى إلى «زرع العديد» من المؤسسات التي لا يربط أصحابَها أيُّ رابط بالمجال التربويّ، بل هم مجرد مستثمرين همّهم الأوحد هو الربح، حتى وإنْ كان على حساب مجال يُعتبر مصيريا لأمة أرادت النهوض والتقدم، فغدت هذه المؤسسات نقمة زادت الوضع تأزما.


من بين المشاكل التي نسجل هنا، أيضا، السلبية التي حكمت تعامل نظامنا السياسي مع أرباب هذه المشاريع، وغضّ الطرف على هيكلته وتنظيمه وفق التشريعات المتحكمة والمنظمة للتعليم عموما.. فاستأسد أرباب المدارس، وبدت هذه الأخيرة وكأنها معامل للنسيج أو التصبير ولا علاقة لها بالمشروع النهضويّ للأمة.. وعومل أطرها كمُياومين هم تحت رحمة المُشغـّل، دون ضمانة تكفلها الدولة لهذه الشريحة، التي تعتبر شريكا فعليا في تطوير أدائها التربويّ والتعليمي، شئنا أم أبينا.
من بين ما نسجل، أيضا، من عثرات على تعليمنا الخصوصيّ ضعف التكوين وإعادة التكوين لدى معظم مدرّسي هذا القطاع، مما تراكم معه الوضع وتفاقم، ناهيك عن عدم تجديد دمائه، بالمطالعة الدائمة والقراءة المتواصلة، تنمية وتجديدا للعطاء.
هذه، إذن، بعض الملاحظات التي تتبعناها من مسار دام عشرات السنين في هذا المجال، وقد يكون غيرها كثير، لكنْ يبقى السؤال مطروحا: ما الحل -الحلول للنهوض بهذا القطاع وإرجاعه إلى سكته، ضمانا لانطلاقة أفضل نحو المستقبل؟..
تكمن الحلول حسب رأيي المتواضع في النقط التالية:


أ- إعادة هيكلة القطاع وتنظيمه من خلال قوانين ومساطر تضمن حقوق كل المتدخلين والتعاقد على حقوق وواجبات موكولة لكل طرف، مع التأكيد على ضرورة الالتزام السياسيّ من قِبل الحكومة، والتعامل مع أطراف القطاع كما نظرائهم في التعليم العام؛


ب- مسألة التكوين تبقى لا مناص منها، سواء للأطر التربوية أو الإدارية، خدمة لناشئتنا، مع الحرص والتأكيد على إحياء الروح الرسالية لهذا الميدان وربطه بقيّم المجتمع الخاصة والإنسانية عامة، بعيدا عن سطوة المال وجشع الربح الفاحش؛


ج- إحياء القيّم والمبادئ من شأنهما ضخّ دماء جديدة في منظومتنا التعليمية، فالعمل على إشاعة مبادئ الانفتاح والحرية وتشجيع الخلق والإبداع هي سبل كفيلة بتصحيح المسار والانطلاق نحو غد أفضل، فالمربّي والمعلم لا بد أن يكون معتقدا في هذه المبادئ، مؤمنا بها، حتى يسهل التواصل ونحقق الهدف المنشود من تعليمنا؛


د- المربي لا بد أن يكون قدوة حسنة لتلامذته، لهذا وجب ألا يروا منه إلا ما يزينه وليس يشينه، فقديما أوصى العرب بتأديب أبنائهم وبناتهم عن طريق رجال ونساء اشترطوا فيهم الاستقامة وحسن الخلق وانسجام الأقوال والأفعال.


هذا بعض مما أظنه كفيلا بالمساهمة في تحسين قطاع تنبني عليه حياة الأمة ويرتهن مستقبلها به.
 

سمير مرصلي 

تعليقات

المشاركات الشائعة