سَنَوَاتُ الضَّياعِ فِي المَدرَسَةِ !




في الصباح الباكر في برد قارس أسير بطريق محفوف بالمكاره نحو تلاميذ أحببتهم ويحبونني، بقرية أشبه بمدينة، ومدينة أشبه بقرية، توسم بعاصمة البرد والضباب باب برد، ألمح ببصري عند مدخل المدينة الكئيب تلاميذ يحملون بين أيدهم كتبا ودفاتر لا يقوون على إخراح أيديهم لحملها من شدة البرد القارس، يخرجون في الصباح الباكر بصعوبة، ويقطعون مسافات على الأرجل نحو مدرسة قدر لأسباب مجهولة أن تبعد عن مدينتهم نحو 15 دقيقة مشيا على الأقدام، أو انتظار حافلة مكتظة بالتلاميذ قد تتسع أو لا تتسع لهم أحيانا فتؤخرهم عن حصتهم الدراسية، ومنهم من قضى عشر سنوات بين فصول دراسية ليصلها، وآخرون أكثر أو أقل من ذلك، وخلف كل تلميذ منهم حكاية، تحملها ملامحه من لم ينبئ عنها بلسانه كفاه حاله، منهم من يأتي رغبة في العلم والدراسة، وآخرون بحثا عن المتعة الحسية والمعنوية، ولو بالنظر فقط، ولكل امرئ ما نوى... .
آتي وأدخل القسم ويتفاوت المستوى بين قسم وآخر بل وبين أفراد القسم الواحد، فيهم السابق بالذكاء وهم كالكبريت الأحمر هنالك، ومنهم المقتصد وهم قلة، وفيهم الظالم لنفسه وهم السواد الأعظم، وتلك سنة الله في خلقه... ، ولن تمر الدقائق الأولى دون أن يقرع تلميذ متأخر الباب، كل له عذره؛ فهذا انقطعت به السبل وذاك حاصرته الثلوج، وآخر حجزه الضباب والأودية بسيولها، فلا أمتلك إزاء أعذار واقعية إلا أن أتقبلها وأبدي المرونة في التعامل تشجيعا وترغيبا لا تقريعا وتوبيخا، وأنطلق في الدرس بعد ترتيبات أولية تلزم كل أستاذ داخل فصله، ثم أواصل الدرس بعد الاطمئنان على حال تلاميذ بلغوا العشرين والبراءة تعلو محيا كثير منهم، أتحدث بلسان عربي مبين فلا يفقه بعضهم الخطاب أصلا، وأدرج كلمة مما تداولها العرب في الاستعمال فأجد نفسي ناطقا بالمستغرب والوحشي من الكلام، ثم أواصل وأعين التلاميذ الجاحظة تنبئ عن رغبة عارمة في القراءة، وهمة أكيدة لنيل العلم والمعرفة، وأمارات التحسر على سنوات فارطة من الضياع بادية على محياهم، ثم ألتمس من أحدهم، أن يقرأ آية قرآنية أو حديثا نبويا أو نصا لكاتب قديم أو حديث، ولا أكاد أجد من يستطيع قراءة النص فضلا عن تجويده وترتيله، فهو مكتوب بخط لا عهد لهم به، فيفرغ التلميذ من القراءة، وترتفع الأصابع في سباق لقراءة نص من النصوص، ولا أكاد تسمع جملة سليمة دون أخطاء في النحو والصرف؛ فأضطر للتصحيح وبيان العلل والأسباب، ثم أسأل عن العلل والأسباب وقواعد النحو والصرف الأولية التي يفترض أن تكون في الابتدائي؛ فلا أرى إلا الحيرة والدهشة بادية على وجوهمم استغرابا من سؤال غريب على أسماعهم، ولا طاقة لهم لبيانه؛ فتنزل بي الهموم والغموم من كل جانب، وتنبعث من نفسي آهات _لا أسمعها إلا وحدي ولا أريد أن يسعها أحد منهم غيري_ على تلاميذ أبرياء مكثوا بين جدران المدرسة عشر سنوات أو يزيد، يفترض أن يكونوا قد بلغوا من العلم والمعرفة شأوا عظيما؛ ثم يتعذر على بعضهم قراءة النص قراءة سليمة؛ لا في الشكل فحسب بل والنطق أيضا، وكلما نبهت أحدهم أو ذكرته، أحالني على ماض سيء يشتكي من أيامه وأساتذته أدق ما يود أن يقوله عن تلك الأيام: "إنها سنوات ضياع"، ليلقي اللائمة على من لم يعلموه حسب زعمه في الابتدائي والإعدادي، فأجد نفسي مضطرا للومه في نفسي، باعتباره المقصر الأول، ولوم من قصر في حقه، ولم يؤد واجبه، فأحاول بما يسمح به وقت الحصة الدراسية المخصصة للتربية الإسلامية أن أصحح ما يقع فيه التلميذ من أخطاء؛ فأسألهم تصحيحها، ولا يدرون ما الفاعل ولا المفعول لا تنظيرا ولا تطبيقا، فأثناء القراءة يرفع المفعول وينصب المضاف إليه، فلا أجد من أعاتب سوى نفسي لتتحمل مسؤولية أكبر في تدارك ما فات لكن هيهات هيهات؛ فدون ذلك خرط القتاد، وأحيانا أجد نفسك مضطرا لتعليم النطق ببعض الكلمات، لتلاميذ مقبلين بعد شهور على المرحلة الجامعية ليصنفوا طلبة باحثين، وأي بحث سامحنا الله منه!.
والأمر وإن كان يشي بخطإ تصورهم للأمر الآن ويومئذ فإني أجد نفسي مضطرا للتعامل مع واقع الأمر، وأبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم وكان الثمرة الطبيعية لتقصيرهم، وعليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير ويسعوا جادين للرقي العلمي والمعرفي! مع شيء من العتاب أحيانا الذي قد تختلف حوله تحليلات التربويين؛ لكنه عتاب لا يسبب ألما ولا يذهب هدرا؛ بل لاحظت أنه رد كثيرين عن أخطائهم وجعل من زلاتهم دروسا وعبرا تشحذ العزيمة; وتؤهل لمستقبل علمي موعود; وهو عتاب لا يطرد تلميذا من جدران التربية والتعليم؛ بل يمده بزاد الطريق، مهما مسه القرح والألم والضيق أثناء السماع! وهو قبل ذلك عتاب محب لحبيب، وناصح لمنصوح.
أما المعرفة الدينية التي يفترض أن تكون عند كل مسلم بالأركان والواجبات، والتي تلقوها في سنوات سالفة من السنوات الدراسية في مادة التربية الإسلامية؛ فهي أثر بعد عين، تكاد تكون معدومة إلا لدى فئة قليلة، ولو سألت عن أركان الإسلام، وصفة الصلاة؛ فلن تجد إجابة وافية من الجميع... وهلم جرا.
ولا شيء ينقذ هؤلاء من الظلمات والجهل بعد الله إلا رسل الرسالة التربوية والتعليمية، فهم الذين اختارهم الله لهذه المهمة وأكرمهم بها وإن قصروا، والتلاميذ إخواننا وأبناؤنا وهم اليوم أحوج ما يكونون إلينا وهم يتردون في هاوية الجهل والحيرة والإفلاس!.
وإني لموقن أن ما أعايشة مشكل عام وهم مشترك، بين جميع المدارس؛ لذا وجب التنبيه ليتحمل الجميع مسؤوليته كل واحد من موقعه وفي مكانه، فما نعانيه من ترد وضعف مرده إلى التقصير من الطرفين، وإن بدت كل أمة تلعن أختها.
وأول ما نحتاجه بث الرغبة في قلوب المتعلمين؛ فكم تلميذ لم يكن يفكر في الارتقاء أو التحصيل أصلا؛ ثم صار متميزا وهاجر لاستكمال تحصيله، وتطوير مهاراته، وبكلمات بسيطة وتنويهات تنبعث من القلب بإخلاص، تنطلق الإرادة نحو الحياة، ويتحقق النجاح، وترى همما ونفوسا تبعث فيها الحياة؛ فلنحيي نفوسا ماتت بالجهل، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.

عبدالكريم القلالي


تعليقات

المشاركات الشائعة