تدريس اللغة ولغة التدريس







عندما تغيب اللغة لا يبقى للآدميين شيء يميزهم عن سائر الكائنات الحية. فاللغة هي «مسكن الكائن «كما يقول الفيلسوف الشهير هايدغر. وتستمد هذه العبارة بلاغتها من منطلق أن المرء لا يرى من العالم إلا ما تمكنه لغته من رؤيته. فلا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بأن رؤيتنا للعالم وللأشياء نحن معشر متكلمي العربية، هي ذاتها رؤية من يتحدث الألمانية أوالصينية أوالإنجليزية أوالفرنسية أوغيرها.

إذ كلما اتسع معجم لغة ما أوشخص ما إلا وكانت العلاقة مع العالم الخارجي أرحب وأدق وكلما تقلص المعجم إلا باتت هذه العلاقة مشوبة بالتوتر والضبابية بسبب العجز عن فهم العالم المحيط بنا. مناسبة هذا التقديم هوما أصبحنا نلاحظه اليوم من فقر خطير فيما يمتلكه شبابنا وتلامذتنا من المعجم اللغوي. فالمتعارف علي حسب المعاييرالدولية بالنسبة للشخص العادي هوضرورة توفره على معجم يتراوح ما بين 2500 و3000 منذ سن الخامسة ليستمر هذا العدد في الارتفاع بمعدل حوالي  400  لفظة سنويا ابتداء من سن السادسة وذلك حتى يستطيع فهم ما يدورحوله ويستطيع التعبير والإبلاغ والتواصل السليم مع المحيط. غير أن بعض الدراسات اللسانية التي اهتمت بالموضوع وقفت على حقائق مؤسفة للغاية مفادها أن العجز اللغوي لدى الشباب ولاسيما في الأوساط الفقيرة والشعبية يمكن وصفه بالخطير، إذ لا يتعدى المعجم لدى هؤلاء 500 إلى 1000 لفظة، الأمر الذي لا يمكن معه حصول تواصل وتفاعل سليمين مع المحيط والمجتمع. وما يزيد الطين بلة هواللجوء إلى لغة مبتورة تماما كما هوالحال بالنسبة للغة الرسائل القصيرة المتبادلة عبر الهواتف النقالة والمواقع الإلكترونية. النتيجة الحتمية لسوء الفهم هذا بين الفرد ومحيطه هي تنامي الإحساس والشعور بعدم الارتياح وتنامي مشاعر الرفض والكراهية وكذا العنف المجاني تجاه الآخر وتجاه المجتمع عموما.

إن عدم القدرة على الفهم يؤدي لا محالة إلى عدم القدرة على التعبير بشكل سليم وسلمي، الشيء الذي يؤدي في الغالب الأعم إلى التعبير بأشكال أخرى غير اللغة من قبيل الإكثار من استعمال الحركات والإشارات وكذا عبارات السب والقذف المسكوكة والمبتذلة التي لا تحتاج إلى كبير عناية لا تركيبا ولا معنى ولا تعبيرا. ولذلك تجد أن البعض قد يبادرك وأنت في الطريق أوأمام شباك تذاكر أوعند بائع متجول بالتفوه دونما سبب معقول بوابل من العبارات النابية والشتائم والهمهمات والحركات غير المفهومة، لا لسبب إلا لأن هؤلاء لا يمتلكون من اللغة ما يسعفهم في فهم خطاب الآخر والجواب عليه بلغة مفهومة.

وعلى مستوى آخر، فإن الذي لا يملك القدر الكافي من المعجم لتفكيك دلالات الواقع ولفهم ما يدور حوله، لا يفتأ أن يصبح حاقدا على المجتمع برمته ولاسيما تجاه من هم في اعتقاده في وضع لغوي وفكري أحسن من الوضع الذي هوفيه. فتنطلق بالنسبة للبعض رحلة البحث الساذج عن خطابات جاهزة يستطيعون من خلالها تصريف مواقفهم ضد المجتمع وكذا التماهي الشكلي مع الفئة التي تجيد الخطاب. وغالبا ما يجد هؤلاء ضالتهم في بعض الأشرطة الدينية التي تباع بأثمنة جد منخفضة أمام المساجد وفي الأسواق الشعبية، حيث يوفر لهم أصحاب هذه الأشرطة المرئية والصوتية خطابات جاهزة وبلغة مسكوكة وسهلة الامتلاك، تجرم وتحرم وتنهي وتأمر. فلا يتردد ضعاف اللغة هؤلاء لحظة في تبنيها وترديدها بعد حفظها بصورة آلية دون فهم أوتحليل أونقد ومن تم يشرعون من حيث لا يدرون في تكرارها على مسامع أفراد أسرهم وأبناء حومتهم، ظانين بذلك أنهم تخطوا عتبة الأمية وأنهم أصبحوا فقهاء في اللغة وفي غيرها من العلوم الشرعية. وإذا ربطنا هذا الوضع بالمدرسة، فان الأمر يستدعي من القائمين على الشأن التربوي ببلادنا إيلاء عناية خاصة لتنمية القدرات والملكات اللغوية لأطفالنا وتلامذتنا منذ المرحلة ما قبل المدرسية  والابتدائية، حتى يستطيعوا فهم العالم وفهم الواقع ومن تمة لا يصيروا لقمة سائغة في فم بائعي الكلام والأوهام الدنيوية والأخروية. لابد أن تنتبه وزارة التربية الوطنية عند وضع الكتب المدرسية الى الحد الأدنى الذي ينبغي أن يتوفر للتلميذ أوالطالب عند نهاية كل مرحلة من مراحل التحصيل الدراسي، بحيث لا يغادر سلكا من الأسلاك إلا وبحوزته معجم لغوي ذهني كافي للتفاعل مع واقعه ومحيطه. وللإشارة فإن  المرحوم الأستاذ لخضر غزل كان قد تنبه لهذه القضية منذ 1996 عندما قارن بين ما تزخر به الكتب المدرسية المقرة بفرنسا من غنى على مستوى المصطلحات والمفاهيم، في مقابل ما تقدمه كتبنا المدرسية. وقد بسط ذلك في دراسة بعنوان  «في قضايا باللغة العربية ومستوى التعليم العربي»، نشرت  بمجلة عالم التربية في عددها الرابع، خريف سنة 1996.

والخلاصة أنه إذا كانت اللغة مسكن الكائن، فان من لا يمتلك اللغة بالقدر الكافي يعد كمن لا جنسية ولا وطن له.




تعليقات

المشاركات الشائعة