صناعة الغباء في نظامنا التعليمي






جندت وزارة التربية الوطنية كل قدراتها التربوية والإعلامية والقانونية من أجل "بكالوريا نظيفة" لا يدنسها الغش وتضع المتعلمين على المحك لبلورة قدراتهم الفكرية والمنهجية والمعرفية حتى يتأتى لهم "الفوز والتتويج" اعتمادا على مبدإ الاستحقاق والكفاءة العلمية.الفكرة تبدو للوهلة الأولى وجيهة، باعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح لتقويم الاعوجاج الخطير وعلاج الداء العضال الذي ألم بنظامنا التعليمي دون أن يبرحه في مرحلة البكالوريا، بيد أن توقيتها لم يكن مناسبا، إذ كان من المفروض أن تسبقها، وعلى مدار السنة الدراسية أنشطة وندوات وحملات إعلامية لتوعية التلميذ بعواقب الغش على المستوى التربوي بعيدا عن الزجرية والعقاب حتى يتهيأ نفسيا للواقع الجديد، وينخرط فيه بتلقائية وعفوية دون أن يبدي مقاومة ورفضا.


هذا إضافة إلى أن الإجراء سلط على المصب، في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن ينطلق من المنبع، أي منذ التحاق الطفل بالمدرسة، لا أن نعمل لسنوات على تربيته على الغباء المتمثل في تبخيس التعلم لديه من خلال مقررات دراسية فارغة وعتبة نجاح لا تتوفر على غربال وتسمح بمرور من هب ودب، وتمكينه من التغيب المتواصل عن الدراسة، حتى أصبح الغياب هو القاعدة والحضور استثناء لدى كثير من متعلمينا، والسماح بالتحاقه بعد كل انقطاع بدعوى محاربة الهدر المدرسي، وتعويده على البساطة والتواضع الذهني بعيدا عن إعمال العقل وبذل الجهد الفكري في الامتحانات الإشهادية من خلال أسئلة تصل حد الابتذال والسماجة من قبيل أن يذيل نص في الامتحان الموحد الجهوي لنيل شهادة السلك الإعدادي في مادة اللغة العربية بمصدر النص مع ذكر جنسه، ثم يطلب من المتعلم تحديد جنس النص اعتمادا على الإحالة الواردة في نهايتهَ!!!، والأمثلة على أسئلة الغباء كثيرة، وتحضر في مختلف المواد، وفق صورة تعيد إلى الأذهان ما كنا نتداوله ونحن صغار من طرائف ونكت عن الاستبلاد المسلط على الشعب الليبي من قبيل كتابة يمين/ يسار على فردتي الحذاء.


هذا دون أن نغفل الفراغ القانوني والتربوي الكبير الذي يجعل المدرس في حيص بيص كلما عن له مشكل مع تلاميذه، مثل عدم إحضارهم للمقررات الدراسية، أو تقاعسهم عن مراجعة دروسهم، أو الانصراف عن الانتباه لحصة الدرس، ليتخذ السواد الأعظم من المدرسين من مبدإ معالجة الأزمة بتركها المنهج الدائم كرد فعل على ضبابية التشريع المدرسي بهذا الصدد.



إن "الإنزال" الذي قامت به الوزارة لمحاربة الغش في امتحانات البكالوريا يشبه إلى حد كبير ترك طفل في حياة برية متوحشة بين الحيوانات بعيدا عن الجنس الآدمي، حتى إذا شب عن الطوق عاقبناه على سلوكاته بدعوى أنها حيوانية ولا تمت إلى الإنسان بصلة!!!
لقد كان حريا بالسلطات التربوية أن تحجز المتعلم عن السقوط في مستنقع الغباء منذ اليوم الأول لالتحاقه بالمدرسة، أما أن تغض الطرف وتتركه يفعل ما يمليه عليه هواه ( غش في الامتحانات الإشهادية غياب متكرر إهمال للدروس) حتى إذا اقترب من نقطة الوصول أمر بالانضباط حتى لا تضبطه كاميرات الرصد المثبتة هناك متلبسا، فهذا مما لا يقبله المنطق السليم والعقل الرصين، إذ لا يمكننا أن نصنع الغباء ونعلم الغباء، ثم ننزل العقوبة على من علمناه إياه، إلا إذا كنا نضع في اعتبارنا تبرئة الذمة والظهور أمام المؤسسات الدولية والعالم الخارجي بمظهر الحازم الغيور على المنظومة التربوية.






نورالدين الطويليع 






تعليقات

المشاركات الشائعة