معلمون أم عابرو سبيل ؟








يضج المشهد التعليمي اليوم بالعديد من صور ازدراء المهنة و المشرف عليها , و التهكم الصريح و المضمر على بُعدها الرسالي . ولعل هذا الازدراء يغذي في العمق سائر الاحتجاجات التي تخوضها أسرة التعليم , كما يُؤثث الفضاء المناسب لتنامي أشكال العنف التربوي و تبخيس الدور المنوط بالذي أوشك أن يكون رسولا !ترتب عن هذا الازدراء نفور متزايد في الوسط التعليمي من مواصلة النهوض بأعباء الرسالة , و سعي حثيث خلف بدائل أخرى للقمة العيش . ولم يعد خفيا اليوم أن التعليم أصبح واحة وظيفية يترقب الكثير من المنتسبين إليها فرصة لتغيير الإطار أو العثور على عمل في الضفة الأخرى .

أما فئة ثانية فاجتهدت في صوغ الأعذار المختلفة لتبرير التهرب من أداء الواجب , و تفضيل الاستجمام المؤدى عنه !لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل يتحمل المعلم وحده وزر تردي المشهد التعليمي ؟ وهل يليق بمن ينصبون له المشانق اليوم أن يُغمضوا الطرف عن تورط بقية المتدخلين ؟أليست التربية مسؤولية الجميع , أم أن الشعارات الرنانة تتوارى حين تلوح في الأفق سحائب الفشل؟

الحقيقة أن امتهان المجتمع للمعلم سلوك يضرب بجذوره في عمق التاريخ , إذ يُؤكد آدم ميتز في كتابه " العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري " أن المعلمين كانوا من جملة الشخصيات المضحكة في المسرحيات اليونانية . ثم انتقلت العدوى إلى بلاد المسلمين خلال عصر الترجمة , فشاعت الأمثال والنوادر التي تستخف بأدائهم , و علاقتهم بالصبيان حتى قيل : إذا كان أحد معلم صبيان أو معلم كُتاب فمعنى هذا عيش مُر و حرفة مُحتقرة ! بل يذهب ابن حوقل إلى أن المعلمين اشتهروا بنقص عقولهم و خفة أدمغتهم , وأنهم ما لجأوا إلى هذه الصناعة إلا هربا من الجهاد و نكولا عن الحرب (1) .

غيرأن الصورة اليوم بلغت حدا من الإسفاف الذي يُخل بالوضع الاعتباري للمعلم , مما يُزكي موقف "عابري السبيل" الذين لاهم لهم إلا الخروج من قفص الاتهام , و التخلص من عبء النهوض بواجب يلقون فيه كل ضروب السخرية و العنت. فبالإضافة إلى التوتر الدائم في العلاقة مع الوزارة الوصية , هناك الإعلام الذي يميل بطبعه إلى التهويل من شأن بعض الحوادث و القضايا الفردية ليُحاكم من خلالها المنظومة ككل. وهناك أيضا احتدام التنافس النقابي وما يترتب عنه من إساءة بالغة للبٌعد الإنساني الذي تنهض عليه رسالة التعليم .تضافرت هذه العناصر الثلاث لتغذية تمثلات المجتمع عن المعلم.


 فالذي كان حتى الأمس القريب مربيا حاملا للمعرفة و صائنا للقيم , أضحى اليوم كائنا متذمرا , كثير الشكوى و الاحتجاج , ميالا للدعة و الراحة ! و بالتالي تهيأت الفرصة لمن أراد أن يُحمله كل الخسائر الناجمة عن سوء تدبير القطاع .و بما أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة و مضاد له في الاتجاه , فإن اتساع دائرة عابري السبيل يُمثل في الحقيقة تعبيرا عن رفض الامتهان الذي يلحقه , وعن حيرته أمام ما يتولد من تناقض بين واجب الممارسة وواقعها .فالتعليم , كما يؤكد الباحث عزيز لزرق , أصبح مجالا تتجسد فيه سلطة القرار , و إلغاء فعالية الممارسين , و النظر إليهم كجنود عليها أن تنفذ لا أن تفكر , و إطارا للعقاب يُحرم فيه الممارس مما يتمتع به سواه من الموظفين , وبالتالي إنها أزمة الوضعية , ناهيك عن أزمة التكوين ومدى استمراره . 


لهذا أصبحت الرغبة في التعليم و الجدية في التحصيل و التدريس مثار سخرية, و علامة على السذاجة , ونعتا طوباويا وفقرا في الواقعية . و بالتالي أصبح التعليم نموذجا للضياع و الهدر في المجهود و في الزمن (2) .في ظل التناقض الحاصل إذن بين الأداء التعليمي المقيد بجملة من الشروط التنظيمية, وبين البعد الرسالي كما يتصوره المجتمع , يصعب تحقيق الرضا الوظيفي الذي يعد مدخلا أساسيا لتحقيق الجودة الشاملة في نوعية التعليم . وهو ما يدفع "عابري السبيل" إلى إبداء حياد سلبي تجاه مشاريع تحديث و تطوير المنظومة التربوية (3) وكما أوردنا سالفا فإن الإعلام يُسهم بدوره في تغذية أشكال النفور من مواصلة الأداء التعليمي , وذلك عندما يُعيد تشكيل الرؤى و القناعات بحيث تصبح المؤسسة التعليمية جزءا من المشكلة بدل أن تكون جزءا من الحل .إن من المفارق حقا أن يجنح الإعلام إلى قصف العقول يوميا بالآلاف من مشاهد العري و الانحلال و العنف , ثم يُحمل المدرسة وزر تفشي الانحرافات السلوكية في المجتمع .

ومن المفارق كذلك أن يتم ربط التعليم بسوق الشغل , وبالصراع من أجل البقاء في عالم متوحش , ثم تتعالى الأصوات منددة بالانحدار الأخلاقي , ومسؤولية المعلم عن تراجع منظومة القيم في المجتمع .ومن المفارق أيضا أن تعلن الأنظمة التعليمية استجابتها لمطلب مواجهة تحديات العولمة , ثم تتبنى منظورا تقنيا و إحصائيا محضا في مقاربتها للمشاكل , و أجرأتها للحلول .


 في حين أن أخطر ما ينطوي عليه نظام العولمة هو التأثير السلبي على بناء الفرد و تشكيل الهوية .إن الرهان على معلم اليوم لبناء إنسان الغد سيظل رهانا خاسرا مالم يُبادر المجتمع بمختلف مؤسساته و فعالياته إلى إحلال المعلم مكانته الاجتماعية اللائقة به , ومالم تبادر السلطة التربوية إلى تحرير قدراته و توسيع هامش حريته في إدارة العملية التعليمية .إنها الخطوة الأولى التي تعيد تشكيل القناعات بغد أفضل , وتستعيد الثقة في المدرسة العمومية كرافعة للتنمية و قاعدة لبناء المستقبل .


(1) آدم ميتز : العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري .دار الكتاب العربي .د.ت. ص 345
(2) عزيز لزرق : حدود وممكنات إصلاح التعليم . منشورات اختلاف . 2001 . ص 69
(3) يراجع الفصل الثاني من كتاب : استراتيجية نظام الجودة في التعليم لمحسن بن نايف . مكتبة الملك فهد . ط 2007 .





حميد بن خيبش









تعليقات

المشاركات الشائعة