مهام حارقة تنتظر المجلس الأعلى للتعليم




 يتباهى اليوم زعماء العالم شرقا وغربا بإصلاح منظوماتهم التعليمية وتطويرها، فتشريح الأزمة في النظام التعليمي دليل قوة وحركية المجتمع، ولم تكن علامة ضعف أبدا. وما يصلح لهذا الجيل لن يصلح بالتأكيد للجيل القادم، ولكل عشرية مناهجها وطرقها البيداغوجية والديداكتيكية وأنماط تفكيرها. والتجديد المستمر والدوري مطلوب ومرغوب.

في المغرب، ومنذ الاستقلال خضعت القضية التعليمية لتجاذبات شديدة، وكان أن أنتجت التعميم والتعريب. وحينما أتى الميثاق الوطني للتربية والتكوين نهاية التسعينيات ليعالج ما تراكم من مشاكل بنيوية للقطاع، لم يقو على التحليق بتعليمنا للخروج من منطقة الخطر. لذلك أتى باهتا مسالما توافقيا إلى أبعد الحدود. ولم يحسم في الأمور الجدية للمنظومة التعليمية. وبعدما تدفقت أموال البرنامج الاستعجالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ضاعت بين مشاريع متعددة ومتداخلة. ولم يصل للحجرة الدراسية والتلميذ الذي من أجله رصدت كل الملايين، إلا الفتات.

ومع إقرار أعلى سلطة في البلد أن التعليم مريض، فإن الحاجة ملحة اليوم لقرارات مؤلمة تتجاوز القبضة الرخوة التي ميزت العشرية الأولى بإصلاح له ملامح استراتيجية واضحة وجريئة، ويقطع مع سياسة محاولة إرضاء الكل والتوافقات السياسية والنقابية والجمعوية، التي تجعل القضية التعليمية لا تبرح مربعها الأول. فمواطن الخمسينية القادمة سيعيش في عالم كوني متقلب وسلاحه الوحيد للحفاظ على ثوابته والصمود في وجه التقلبات الدولية هو العلم والاستقلالية والقدرة على المنافسة حتى يضمن موطئ قدم في عالم الغد. وستكون أمام المجلس الأعلى للتربية والتكوين الجديد مهمة حاسمة لتحديد الأولويات وإحداث سبل إقلاع حقيقي لتعليمنا دون محاباة أو تورية. فالقضية التعليمية أكبر من كل الأحزاب، وتعيين وزير تكنوقراطي على رأس وزارة التربية في حكومة بنكيران الثانية، رسالة قوية وواضحة لكل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. 
أولى الملفات الحارقة التي يجب أن تحسم فيها لجنة عمر عزيمان، مسألة التعريب ولغة التدريس بعيدا عن طروحات السيد عيوش. وإلى متى ستستمر المجانية أو وهم المجانية مع ازدياد أعباء الساعات الخصوصية التي تثقل كاهل الأسر، ومسألة الأمازيغية وحدود تدريسها ولو في ظل دستور جديد رسم الأمازيغية لغة ثانية للبلد. ولنا في النموذج الكاتالاني عبرة شفافة لرؤية إلى أي حد يمكن أن تنزلق لعبة التوافقات اللغوية. 

إن الأولوية اليوم يجب أن تعطى لتعميم الإنجليزية في مدارسنا منذ السنة الأولى للتعليم الإعدادي، وتوفير العدة البشرية لذلك. وكذا تدريس العلوم ـ الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية ـ باللغة الفرنسية  منذ المستوى السادس في أفق تدريسها بعد عشر سنوات بالإنجليزية في التعليم العالي. 

المسألة الجوهرية الثانية والتي يمكن أن تطبع الإصلاح الجديد بعنوان واضح لا يقبل التأويل، هي تغيير دفة قيادة التعليم لتبتعد عن المحافظية والتقليدانية نحو معاصرة واضحة المعالم، بعدما لم يعد تعليم الألفية الجديدة ينتج سوى مظاهر متنوعة من العنف المدرسي والأسري والمجتمعي، والخواء الفكري والثقافي. وذلك بوسم مضامين التعليم الجديدة بقيم كونية تشجع على التسامح ومقاربة النوع والمساواة وحقوق الإنسان وسمو القوانين الكونية لإنتاج جيل له كفاءة الاستقلالية، وتقدير الذات والقدرة على اللحاق بالعالم المتقدم. فتجفيف مستنقع التطرف الديني والفكري لا يتحقق ببناء المدارس والثانويات وتغيير المناهج فقط، بل بالحرص على إيصال الرسالة التربوية سليمة للنشء من طرف كل الفاعلين التربويين دون أن تلتصق بها شوائب الإيديولوجيا.  يمتلك المجلس الأعلى للتعليم وبعد مشاوراته المكثفة والمطولة مع عدد كبير من الفاعلين التربويين والنقابيين والمثقفين اليوم خزانا كبيرا من آليات التشخيص الدقيق للمنظومة التربوية، والحلول الاجتهادية التي لم يبخل بها هؤلاء. وهي حلول تتنوع ما بين الآني والمستعجل، والمدى القريب والمتوسط. وإذا ما فتحت في آن واحد فسيكون مصيرها ما حدث بالضبط مع البرنامج. من هنا ضرورة وضع برنامج متوسط المدى بأهداف واضحة لا تتعدى الأربعة في الموسم الواحد، وبنسبة ملء تقارب المئة في كل جهات المملكة. وهذه الطريقة المتدرجة في تحقيق الأهداف، معمول بها في دول عريقة ككندا وإنجلترا والتي ترفع على امتداد السنة ثلاثة شعارات تربوية كبرى متوافق عليها يعمل الجميع على تحقيقها، وزارة وصية، ومنتخبين، وجمعيات مدنية، وأحزاب سياسية، وإعلام وطني كل من موقعه.

 أما المشتغلون في القطاع، فلم يعودوا يصنعون الفارق في المعادلات السياسية. ولم يعد يجمعهم في زمن اليتم النقابي سوى المطالبات المادية التي تضمن كرامة العيش والالتحاق بتلابيب الطبقة المتوسطة. وعليه فإن الوقت مناسب جدا اليوم لإعادة الهيبة لرجل التعليم  لخلق الجاذبية لمهنة التدريس، وخلق مسارات للترقي مبنية على المنافسة والاجتهاد والتميز في الفصول، عوض الأقدمية والامتحانات المهنية والشواهد الجامعية التي تخلق دملا في الجسد التعليمي. وكذا توحيد ساعات العمل بين جميع الأسلاك، وتجريم الساعات الخصوصية ربحا للجهد، والتفكير بجدية في آليات إلحاق التعليم القروي بالجماعات المحلية، وإعطاء استقلالية تدبيرية مادية وتربوية كاملة للمؤسسات التعليمية بالمدن، ورفع جزئي إلى كامل للمجانية صعودا من التعليم الإعدادي إلى التعليم الثانوي، وخلق معايـيـر واضحة لتقيـيـم أداء كل المؤسسات التعليمية، ونشر تصنيفات سنوية بذلك حسب الأسلاك بكل جماعة محلية، لدفعها إلى تجويد ممارساتها التربوية واستقطاب أكبر للتلاميذ والأساتذة المتميزين، دون أن نغفل طبعا إحداث طفرة حقيقية في نظم التقيـيـم التربوي بمدارسنا لصناعة جيل جديد يؤمن بقيم التعاون والتآزر عوض المنافسة والتسابق.



 محمد الشلوشي




تعليقات

المشاركات الشائعة