شوف تشوف : ''من بوكماخ إلى بوكلاخ'' بقلم رشيد نيني




أصبح بعض وزراء العدالة والتنمية متخصصين في «النكير»، وبمجرد ما يطلقون تصريحا عشوائيا ما يلبث أن ينقلب عليهم حتى يسارعوا إلى اتهام الناس بسوء الفهم.

وعندما قال مصطفى الرميد وزير العدل، مشككا إنه لو صح توفر مزوار وزير الخارجية على الجنسية الفرنسية فستكون كارثة، سارع بعدها مباشرة إلى نفي ذلك متحججا بأن تصريحه أسيء فهمه.

وعندما وصف رئيس الحكومة المرأة المغربية بالثرية التي يجب أن تظل «معلقة» في البيت، وتسبب ذلك في حالة استنفار في صفوف الجمعيات النسائية، سارع وزيره في الاتصال والناطق الرسمي باسمه، إلى نفي ذلك متحججا بأن تصريح بنكيران تم تحريفه وأسيء فهمه.

وعندما قال لحسن الدادوي وزير التعليم العالي، إن العاطلين عالة على المجتمع وإن الأدبيين خطر على المغرب، سارع إلى نفي ذلك متهما جهات معادية بتحريف كلامه وإساءة فهمه.
«دابا هاد السادة الوزارا هوما الفهايمية الكبار فهاد البلاد وحنا وبقية الشعب المغربي غير مكلخين والسلام».

وكأني بالداودي المتخصص في الاقتصاد، قد أنتج لنا نظرية علمية في السنوات التي قضاها «كباحث» في فرنسا، لولاها لعاش المغرب مرة أخرى سنوات «بوهيوف»، ولأن هذا الرجل المتسرع والمرتجل الذي يسبقه لسانه دائما، يعرف أكثر من غيره أن قرار إنشاء الباكالوريا المهنية هو قرار لا دخل لحزبه ولا لحكومته ولا له شخصيا في اتخاذه، فقد حرص على أن «يلعب العشرة» أمام الذين اتخذوا هذا القرار، ليثبت استعداده لمسايرة إيقاعهم، وأنه «ولد الوقت»، مع أن هذا القرار يعرف العارفون بشؤون «الدار» أنه يعود إلى زمن خشيشن والعبيدة.

والحقيقة، ليست هذه المرة الأولى التي يعزف فيها هذا السياسي نوطة نشاز كهذه، فقبل أشهر أخرج «ورقة» انتخابية أهداها بالمجان لفصيل حزبه في الجامعة، والذي عرف جيدا كيف يستثمرها، وهي عندما أصدر قرارا يعفي فيه المرشحين لاجتياز امتحانات الماستر من المقابلة الشفوية، والغريب، هو أن هذا القرار جاء في وقت غير مناسب وسبب متاعب قانونية وتنظيمية كبيرة للجامعات، فهو ليس فقط قرارا غير قانوني لكون أصحاب الماستر مطوقين بدفاتر تحملات تلزمهم باعتماد الشفوي في امتحانات الولوج، وإلا أصبحت شهاداتهم ملغية بقوة القانون، وليس فقط كون هذا القرار تدخلا في صلاحيات الجامعات وضربا لمبدأ استقلاليتها، ولكن لكون توقيت القرار يعتبر سيئا للغاية، لأنه جاء في وقت كان فيه رؤساء الماستر وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات يخوضون حروبا يومية مع طلبة يعتقدون بأن استكمال التعليم الجامعي في سلك الماستر هو حق مطلق، أي أنه في الوقت الذي كان رؤساء الجامعات ينتظرون من المسؤول السياسي للقطاع أن ينتصر لمبدأ الاستحقاق وتطبيق القانون، فقد انتصر للشعبوية والمزاجية التي عرف بها.

فهذا «الباحث» المتخصص في الاقتصاد نسي أنه هو أيضا ينتمي إلى تخصص غير علمي، وإلا هل يجرؤ الداودي على تسمية الاقتصاد بالتخصص العلمي؟ وإذا كان الاقتصاد علما، فماذا سنسمي الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا وغيرها من التخصصات؟
لا نريد أن نرتكب نفس خطأ هذا «المتخصص»، إنما لنناقشه نقاشا ابستمولوجيا، فالاقتصاد يصنف ضمن ما يعرف بالعلوم الاجتماعية، وهذا أول درس يدرسه طلبة السنة الأولى في الجامعات، فبالأحرى «متخصصون» أمثال الداودي، بسبب إشكالية ابستمولوجية حقيقية تعيشها هذه العلوم من حيث المنهج والموضوع، وهي إشكالية الموضوعية، وما على الداودي إلا العودة لأشهر الكتب في مجال الابستمولوجيا، هذا إن كان يقرأ من أساس، ليتعلم ماذا تعنى كلمة «علم» اليوم، وليقرأ لشبنغلر وفيرابند وباشلار وطوماس كون وغيرهم.

أما إذا سايرنا المنطق الذي تكلم به الرجل، وقلنا إن الأدبيين يشكلون خطرا على المغرب، فإن كل قضاة المغرب وكبار رجال الأمن يشكلون خطرا على المغرب، لكون أغلبهم قد دخلوا كليات الحقوق بالباكالوريا الأدبية، بل إن زملاء كثيرين له في الحكومة، وفي الحزب تحديدا ينتمون هم أيضا إلى «زمرة» الخطيرين على المغرب، وإلا هل تخصصات الرميد والحقاوي هي الفيزياء النووية مثلا؟

فالرجل هنا يعيدنا لنقاش ودعناه منذ سنوات المراهقة الأولى في الثانويات، عندما كان الأدبيون والعلميون المتحدرون جميعهم من جيل بوكماخ يتنابزون بالألقاب حول تخصصاتهم، لكن عندما ولجنا الجامعات ودعنا هذا النقاش، وها هو الوزير شخصيا يعيدنا إليه، معتقدا أنه نطق بحكمة الراشدين، فيما هو يدخلنا حقيقة في زمن بوكلاخ من أوسع الأبواب.

وبالعودة إلى الوصف الذي أطلقه على العاطلين والأدبيين، فهؤلاء يا سعادة الوزير ضحايا وليسوا عالة، هؤلاء ضحايا لاختيارات تكوينية في التعليم العالي، فأغلب الذين تصفهم بالعالة هم خريجو مسالك وشعب قال أصحابها إنها ستفك عقدة علاقة الجامعة بسوق الشغل، فإذا بهم تخرجوا منها لينضافوا لآلاف العاطلين الآخرين، فلاهم استفادوا من تكوين جامعي كاف، أي أربع سنوات كاملة كما كان عليه الأمر سابقا، ولا هم اشتغلوا بالشهادات التي تحصلوا عليها، وبالتالي فبدل الاتصاف بالشجاعة في مواجهة المغلوبين على أمرهم، كان حريا بك أن تتصف بها في مواجهة الذين ضحكوا على أبناء الشعب منذ تطبيق الإصلاح الجامعي المعتمد حاليا.

أما الذين وصفتهم بالخطيرين، فنحن نستغرب هذه الأحادية التي تحيي تعليمات البنك الدولي حرفيا، والتي تستهدف التخلص من التنوع الذي ينبغي أن يكون في جامعاتنا، والاكتفاء بتكوين حرفيين فقط، مع أن الحضارات يبنيها الإنسان بعقله وخياله وإبداعه وليس بيده فقط، وليرجع الداودي للكتاب الضخم للمؤرخ الشهير أرنولد توينبي المسمى «تاريخ البشرية»، ليقرأ أبجديات تكوين الحضارات على مر العصور، فمجتمعنا في حاجة إلى مهندسين وأطباء وتقنيين، ولكنه في حاجة أيضا إلى رجال قانون وأدباء وفنانين وشعراء ومؤرخين، ومن يعود لمناظرة عيوش والعروي سيجد هذا الأخير يرفض جملة وتفصيلا هذه المقاربة العرجاء، والتي تفرضها المنظمات الدولية على المغرب في تعليمه المدرسي والجامعي، لكونها تستهدف فقط تكوين أياد ماهرة وليست عقولا مبدعة، ولم يفت العروي هنا أن يعلق، بكون هذه المقاربة، لا تليق بالمغرب وحضارته وتاريخه، بل تليق بالدول الفقيرة جنوب الصحراء.

أما إن كان الداودي يريد أن يعلق على ارتفاع نسبة النجاح في الامتحانات الأخيرة للباكالوريا في صفوف الشعبة الأدبية هذه السنة، فإن هذا مقام آخر يبدو فيه الداودي خارج التغطية تماما، بل وكان حريا به أن يتكلم عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك، وعلى رأسها طبعا الطريقة الارتجالية التي دبر بها زميله رشيد بلمختار امتحانات هذه السنة، والتي تعد الأسوأ منذ سنوات، وذلك بشهادة أهل الدار.

فالملاحظة التي أثارت كل المتتبعين، سواء كانوا مسؤولين أو مراقبين في امتحانات هذه السنة، هي الدرجة الخطيرة التي بلغها تفشي ظاهرة الغش، فالجميع تتبع أخبار المكتبات التي تبيع «الحروزة» علانية لكل المترشحين، وأخبار التلميذة التي أجرت عملية جراحية كاملة لأذنها لإدخال سماعة تمكنها من تلقي الإجابات من أسرتها، كما أن الجميع تتبع أخبار المترشحين الذين هددوا المراقبين بالسكاكين إن هم قاموا بواجبهم في محاربة الغش وضمان تكافؤ الفرص، والجميع تتبع صورا لأوراق إجابات كتب فيها أصحابها جملا رقمية على أنها جزء من الإجابة الصحيحة، لكن ما لا يعرفه الجميع هو حرص الحكومة على صورة خاصة بنظامنا التعليمي للاستهلاك الخارجي، وخاصة في أعين كبريات المدارس والمعاهد الأجنبية قد دفعها رغم كل هذا إلى تغليط الرأي العام، معتبرة أن الزخم الحقيقي الذي أنتجه الوزير السابق، مسيئا لصورة الباكالوريا المغربية، لذلك عملت الحكومة على تعطيل قانون زجر الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية والذي صادق عليه المجلس الحكومي يوم 6  يونيو من السنة الماضية، والذي يحمل رقم 13-02  وتقدم به محمد الوفا وزير التربية الوطني، والابقاء عليه في «ثلاجة» الأمانة العامة دون تقديمه للمصادقة عليه من طرف البرلمان.

إذن فالداودي بدل أن يعترف بهذه الحقيقة، ويحمل الحكومة مسؤولية تعطيل القوانين في محاربة الغش، وأيضا يحمل زميله «القوي» بلمختار مسؤولية ذلك، بسبب إعلانه الصريح والمتلفز بكون مخططه لمحاربة الغش سينطلق السنة المقبلة وليس هذه السنة، وهو ما أطلق العنان للجميع لكي يغش، إذن بدل أن يقوم الداودي بذلك، فإنه آثر أن يفعل كما تفعل كل النعامات، وتغليط الرأي العام على حقيقة الواقع، والتي تكشف عدم قدرة حكومته على ضمان الإبقاء على التعليم كخدمة عمومية بامتياز، وكذا عدم قدرتها على إيجاد حل لمشكلة تفريخ الجامعة للمعطلين.

وللتذكير فقط، فقد قام هذا الوزير «العلمي» جدا، بأكبر عملية استقطاب للمدارس والجامعات الخاصة الأجنبية، بشكل لم يقدر عليه وزراء سنوات التخطيط الخماسي، مدارس وجامعات غالية التكلفة، موجهة فقط للميسورين، وإلا من يستطيع من عموم المغاربة ضمان عشرة آلاف درهم شهرية على الأقل لتدريس ابنه أو بنته في إحدى هذه الجامعات لمدة ثلاث أو خمس سنوات؟

فالحقيقة التي يعمل الوزير «العلمي» جاهدا لإخفائها هي أن هذه الحكومة بتخليها عن التعليم المدرسي لصالح التيكنوقراط، واستقطابها للمدارس العليا والجامعات الأجنبية بدل إصلاح الجامعات المغربية، تكون بذلك قد قامت بأكبر خطيئة في حق المغاربة، فهذه الحكومة هي التي تشكل خطرا على المغاربة لكونها تتكون من وزراء من هذه الطينة، وهي بالتالي التي تشكل عالة عليهم، لكون أعضائها متخصصين فقط في تفجير المفرقعات وإعادة قراءة الإملاءات التي تأتيهم من المؤسسات المالية الدولية، بدل إبداع حلول في مستوى ما ينتظره المغاربة.








تعليقات

المشاركات الشائعة