زوبعة في فنجان بقلم رشيد نيني
الزوبعة التي يثيرها البعض في مواقع التواصل الاجتماعي تعليقا على نشر «الأخبار» في عدد سابق لكاريكاتور، يروج أصحابها أو من يقف وراءهم بأنه مسيء لرجال التعليم، فيها الكثير من التجني على جريدة آمنت منذ تأسيسها، بأن قطاع التعليم قطاع حيوي أهم من أي قطاع عمومي آخر.
وحتى لا نكتفي بافتراض نوايا سيئة عند من أثار هذه الزوبعة، أو على الأقل عند من يحرص اليوم على الظهور بمظهر المدافع على سمعة رجال التعليم أكثر من رجال التعليم أنفسهم، دعونا نقول بوضوح درءا لكل لبس قد يسقط فيه البعض، وتجفيفا لكل بركة قد يسبح فيها البعض الآخر، أن هذه الجريدة لم تسئ لأي موظف عمومي يؤدي خدمة عمومية في الماضي، ولن تفعل في المستقبل، فبالأحرى إن تعلق الأمر بمن كاد أن يكون رسولا، لسبب بسيط، وهو أننا مقتنعون بأن الأزمات التي يعيشها التعليم المغربي متعلقة بسياسات واختيارات قامت بها الحكومات المتعاقبة لهذا القطاع، وأن رجال التعليم أنفسهم هم في جانب كبير ضحايا لهذه الاختيارات والسياسات، وقد وقفنا عشرات المرات، سواء في هذا العمود أو في تغطيات أو قصاصات خبرية أو تحقيقات على تجليات هذا الواقع، سواء من خلال احتضان الجريدة كل أسبوع، ومن خلال الملحق التربوي الذي نصدره للرأي الآخر، مع حرصنا الشخصي، على تجنب إعطاء مساحة الحوار للمسؤولين فقط، بل الانفتاح على كل الحساسيات النقابية والحزبية والجمعوية، بل إنني أحرص شخصيا في كل مرة يطغى فيها حدث تعليمي على اهتمامات الرأي العام، على أن أدلي برأيي في هذا الملف أو ذاك، مسخرا مختلف مصادر المعلومات التي أملكها في قطاع التعليم، لإضاءة مجموعة من الزوايا التي لم يكن يتجرأ عليها أحد، أو لم يكن الرأي العام ليطلع عليها، لولا قيامنا بذلك، وسنأتي على ذكر مجموعة من هذه القضايا والتي بإمكان أي قارئ التأكد منها، بالعودة لأرشيف الجريدة، لنوجه رسالة مختصرة وواضحة، ومفادها أن رجال التعليم أذكى من أن ينجروا وراء ادعاءات كهذه التي يروج لها البعض في العالم الافتراضي، وأن رجال التعليم أدرى بالذين يدافعون حقيقة عن قضاياهم ويعرفون من يدعي القيام بذلك، ليجلس في الكواليس مع المسؤولين ليفاوض من أجل فتات المائدة.
وقبل ذلك لا بد أن أذكر أيضا، أنه في الوقت الذي استغنت فيه بعض الجرائد نهائيا عن فكرة تخصيص ملحق أسبوعي للتعليم، مكتفية بإدراج الخبر التعليمي ضمن أخبار «الحوادث»، فإني حرصت شخصيا منذ لحظة تأسيس هذه الجريدة، على أن يكون لرجال التعليم منبر ينفتح على قضاياهم، التي هي في المحصلة قضايا بلد بأكمله، نظرا للأهمية الحيوية لقطاع التعليم في حسم معركة التنمية، وهذا أمر قلته مرارا وكتبته مرارا، وأنا مقتنع به أشد الاقتناع، حيث أحرص كل أسبوع على أن يكون الملحق صوت من لا صوت له، دونما حاجة لوساطات حزبية أو نقابية كما هو موجود عند بعض الجرائد الأخرى، والتي تنشر أخبار التعليم والحوارات والتغطيات الصحفية الخاصة بجهات معينة بناء على «إملاءات» هاتفية، واصطفاف لأصحابها مع هذا الحزب أو ذاك، والقارئ العادي فضلا عن رجال التعليم أنفسهم، يعرفون جيدا أسماء الجرائد التي أضحت ملحقاتها التربوية منبرا لحزب العدالة والتنمية ونقابته وحدهما، في محاولة لاستصدار شهادة حسن سيرة وسلوك أمام الرأي العام، بالرغم من الأخطاء الفادحة لهذا الحزب الذي يقود الحكومة الآن، في حق التعليم ورجال التعليم.
فمنذ تأسيس هذه الجريدة والتي تزامن خروجها للأسواق مع تعيين هذه الحكومة، اخترنا بوضوح الانحياز للشعب، ليس ضد الحكومة من أجل أن نكون ضدها، كما يعتقد بعض الذين «يحسبون كل صيحة عليهم»، بل من أجل الدفاع عن قضاياه، وقد كان التعليم إحدى واجهات انحيازنا له، وكل القراء ورجال التعليم يتذكرون، أنه في الوقت الذي كانت فيه الكثير من الجرائد تتملق للحكومة الحالية، وتتجنب إحراجها بعدم نشر الأخبار والبيانات التعليمية التي قد «تشوش» عليها، كان عبد ربه أول من يعلن صراحة انتقاده لاختيارات هذه الحكومة وقراراتها المتناقضة كليا مع كل الشعارات التي كانت تقولها إبان الحملة الانتخابية، لذلك فقد خصصتُ عشرات المقالات لتنوير الرأي العام في أمر المغالطات الكثيرة التي كان يروج لها وزير التعليم السابق محمد الوفا، وبتغطية سياسية واضحة من رئيس الحكومة، حيث تناولت بالتفصيل سلوكياته التي كشفنا صراحة بأنها لا تليق بمسؤول عمومي، فبالأحرى مسؤول عن قطاع للتربية، وحينها كان البعض يصف ذلك بالتحامل، على الرغم من أن ما كنت أقوله، كان موثقا بأدلة لا يرقى إليها الشك، و»حْيَانَا الله» حتى سمع المغاربة، بالمباشر وعلى شاشة التلفاز التي يمولونها من جيوبهم، هذا الوزير يقول كلمته النابية لنائب برلماني.
وعندما قلت مرارا بأن هذه الحكومة لا تملك أي سياسة لإصلاح قطاع التعليم، وأن الأولى بها قبل أن تتخذ أي قرار بخصوص مستقبل التعليم أن تقدم للرأي العام فحصا للبرنامج الاستعجالي الذي كلف دافعي الضرائب 45 مليار درهم، تبخرت في ظرف ثلاث سنوات دون أن تكون لها نتائج ملموسة على الأرض، تضمن لأبناء المغاربة حجرا للدرس تليق بكرامتهم، حيث وقفت شخصيا في أكثر من مقال، على فضيحة حقيقية قام بها الوفا، تتمثل في تجميد أموال كانت مخصصة للتكوين المستمر لرجال التعليم، وتبلغ ما يناهز ربع مليار درهم، حينها قال محمد لوفا وتبعه في ذلك بنكيران، بأن المرحلة الحالية التي يمر منها التعليم تفترض تجفيفا لينابيع الفساد، ولأني لم أكن أصدق محاولات ذر الرماد على العيون هذه، فقد وقفت في أكثر من مناسبة، والأرشيف موجود، على التضليل الذي كان يقوم به محمد الوفا، ومن خلفه هذه الحكومة للظهور بمظهر «محارب الفساد»، حيث كشفت بالأدلة الدامغة تلاعباته إبان قضية السكن الوظيفي، ففي الوقت الذي كان فيه الوفا حريصا في البرلمان على الظهور بمظهر المدافع عن المال العام، كان يغض الطرف عن مسؤولين آخرين، تم التوقيع على مرسوم تعيينهم من جديد في الشهر ذاته الذي ظهرت فيه أسماؤهم على لائحة المحتلين للسكن الوظيفي، وذكرنا أمثلة بالأسماء لشخصيات، منها مدير أكاديمية الغرب شراردة بني احسن الحالي والذي ما يزال إلى حدود كتابة هذه الأسطر محتلا لفيلا في حي الطائرات بالرباط، ونائبة التعليم بتمارة والتي تحتل إلى الآن مسكنا في الرباط هي أيضا، وكذلك الأمر بالنسبة لمدير أكاديميات وجدة السابق والجديدة ومراكش ومكناس، فهؤلاء كما يتذكر القراء ورجال التعليم، كنا قد ذكرنا أسماءهم بالتفصيل، لكونهم يفضحون كل ادعاءات الشفافية التي كان يقول بها محمد الوفا، وما تزال تقولها الحكومة الحالية، لكون هؤلاء ببساطة تم تعيينهم كآمرين بالصرف في الأكاديميات الجهوية وهم يحتقرون المقررات الوزارية، لكونهم رفضوا إفراغ مساكن أعطيت لهم في السابق لتسهيل أدائهم لمهامهم، ليحولوها هم إلى فيلات لقضاء عطل العائلة أو مآرب أخرى.
لذلك فقد كنا السباقين لقول «اللهم إن هذا منكر» عندما رأينا الوزير ينفذ مسطرة إفراغ أرملة عون من مستودع مهترئ في مدرسة بينما لم يتجرأ على فعل ذلك مع كبار مسؤوليه، الذي تم تعيينهم بمرسوم موقع من رئيس الحكومة يخول لهم رواتب لا تقل عن أربعة ملايين سنتيم شهريا.
لا أريد أن أظهر هنا بمظهر الذي يمن على رجال التعليم بتحمله عبء الحديث بأصواتهم، وإنما لتذكير هؤلاء الذين وجدوا في كاريكاتير الساخر مناسبة لجلدي شخصيا، وجلد الجريدة التي أجزم أنها من أكثر الجرائد التي تتعامل بنضال حقيقي وغير مزيف في ملف التعليم، فعندما كنا نسعى لتنوير الرأي العام بحقيقة ادعاءات هذه الحكومة، كان حزب بنكيران ونقابته لا يقوون على النطق بكلمة واحدة، بل كان نواب هذا الحزب ونقابته ينظمون قصائد المدح في حق محمد الوفا، وعندما جاءت ساعة الحقيقة، وانتقد الخطاب الملكي أداء هذه الحكومة في مجال التعليم، والتي صيرته أسوأ مما كان عليه منذ عشرين سنة، ابتلع كل هؤلاء ألسنتهم وصمتوا، لكون الملك تكلم من منطلق الأب والطالب السابق خريج المدرسة العمومية، حينها صمت محمد الوفا عن كل ادعاءاته، ومعها صمت كل أصحاب القصائد التي كانوا ينظمونها في حضرته بالبرلمان.
ومن باب التذكير دائما، ولعل الذكرى تنفع المؤمنين، فقد وقفت في عمودي هذا مرارا على أشكال الريع التي احتضنتها هذه الحكومة، بالرغم من زوبعة اللوائح التي بدأتها، حيث تطرقت في مقالين كاملين، لما يسمى ريع المدارس الخصوصية، وأيضا ريع الكتب المدرسية، وهما قطاعان بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا لأقلية، قلت حرفيا أنهم مستفيدون من حرب التعليم، حيث ذكرت مختلف التلاعبات التي تقوم بها وزارة التعليم في إسناد عقود طبع الكتب المدرسية لعشرات المطابع، والتي تقسم بينها الكعكة، هذا بالرغم من أن دفاتر التحملات الخاصة بها انتهت صلاحيتها منذ سبع سنوات، ومع ذلك لم تستطع حكومة اللوائح أن تقوم بأي إجراء في اتجاه تخفيض أثمنة الكتب المدرسية التي تكوي موسميا جيوب الشعب، كما تناولت أيضا تلاعبات بعض المدارس الخاصة والتي أضحت تبيع علانية الشواهد، باسم الجودة، مستغلة ضعف المدرسة العمومية، ولم تقم الحكومة بأي إجراء، اللهم إلا بروباغندا قام بها محمد الوفا آنذاك في حق أرباب هذه المدارس، قبل أن يتراجع لكون لوبي هذه المدارس يتحكم في رئيس الحكومة شخصيا، وذلك من خلال شخص يملك مجموعات مدارس كبرى في سلا والقنيطرة والبيضاء، وهو في الوقت ذاته من أقرب المقربين من بنكيران، لكونه يضمن له أصوات ساكنة مدينة سلا.
لقد كانت هذه الجريدة متعاطفة جدا مع مختلف فئات رجال التعليم، حيث تحولت الجريدة إلى صوت من لا صوت لهم ولا منبر لهم، حيث احتضنا مطالب كل الفئات من مديرين وحراس عامين وأساتذة مطالبين بالترقيات بالشواهد، وغيرهم، حيث أحرص شخصيا على أن أرسل صحفيا من الجريدة لتغطية أنشطتهم مهما كانت وأينما كانت.
أقول هذا، وأنا مقتنع أيضا، بأن 300 ألف موظف من نساء ورجال التعليم ليسوا كلهم ملائكة، صحيح أن فيهم شرفاء كثيرين علموا ويعلمون أبناء المغاربة بتفان واجتهاد، وشخصيا سأظل ممتنا للعديد منهم لما أنا عليه، لكونهم ساعدوني منذ صغري على أن أكتشف مواهبي، وعلموني معنى الاعتماد على الذات، والمثابرة في العمل، وتحمل المسؤولية، وغيرها من القيم التي أحرص عليها اليوم أشد الحرص.
لكن لا أحد ينكر أيضا، أن هناك بعض الحالات المعزولة لبعض رجال التعليم، لا تستحق أن يحسب أصحابها على قطاع التربية، لكون مكانهم الطبيعي هو السجن أو ماريستان الأمراض العقلية، لأن من يتحرش بأطفال صغار، ومن يمارس التعذيب في حق التلاميذ، ومن يبتزهم بساعات الدروس الخصوصية، ومن يقدم شهادة مرضية في التعليم العمومي للتفرغ للساعات الإضافية في التعليم الخاص، فهؤلاء لسنا في حاجة لمعجم جديد لوصفهم بكونهم عالة على قطاع التعليم.
لذلك أعود وأقول، إن هذه الجريدة لم تكن ولن تكون يوما ضد رجال التعليم، بل ضد الذين يستغلون قضايا هذه الفئة من حزبيين مرتشين ونقابيين وصوليين للاغتناء أو لتسجيل النقط على الحكومة أو من أجلها، وهذه الجريدة أيضا لم تكن ولن تكون ضد التعليم، بل ضد الذين يغامرون بمستقبل أبنائنا في قرارات غير محسوبة، ترهن مستقبل بلاد بكاملها.
رشيد نيني
تعليقات
إرسال تعليق