إصلاح التعليم بالتيمم بقلم رشيد نيني




إصلاح التعليم بالتيمم (1/2)

أمام عجزه الواضح عن معالجة ملف التعليم العمومي، سواء الأساسي أو العالي، لجأ الحزب الحاكم إلى طريقة «التقلاز من تحت الجلابة».
وقد ظهر ذلك بوضوح عندما نادت منظمة التجديد الطلابي التابعة للحزب الحاكم، إلى تنظيم وقفة أمام البرلمان احتجاجا على أوضاع الجامعة، علما أن الجامعات يتحمل مسؤوليتها وزير من العدالة والتنمية هو لحسن الداودي، يقضي وقته في مغازلة نقابة أساتذة التعليم العالي بملف الترقيات.
أما وزارة التربية والتعليم التي يقودها التكنوقراطي رشيد بلمختار، فقد سلط عليه الحزب الحاكم منظمة «الائتلاف الوطني للغة العربية» التي يقودها ناشط بحزب العدالة والتنمية، طالب الوزير بتقديم استقالته بسبب رفضه الحديث بالعربية لصحافية فرنسية بحجة أنه يجهل الحديث بهذه اللغة.
وهكذا فقد أصبح الحزب الحاكم يقود الأغلبية الحكومية ويقود المعارضة أيضا، وكلما أراد أن «ينغز» أحد وزراء حكومته يسلط عليه أذرعه الشبابية والجمعوية والدعوية.
والواقع أن الحديث عن التعليم العمومي أصبح كالحديث عن المرض المزمن، إذ لا تكاد تمر بضع سنين، لا تتعدى الثلاث في أحسن الأحوال حتى يتجدد الكلام عن الأزمة. فمع بداية الألفية ولكي لا نعود للوراء كثيرا، ساد الاعتقاد بأن أول ميثاق وطني للتربية والتكوين سينهض بواقع هذه الخدمة العمومية التي تمول من المال العام من أجل خلق ثروة مادية أو غير مادية متعلقة بتنمية المجال الثقافي عموما.
إلا أنه وقبل الوصول إلى منتصف العشرية، انطلقت منتديات للإصلاح وتبعها التقرير الصادم للمجلس الأعلى للتعليم عن حالة المنظومة، فاتحا المجال لمخطط استعجالي عرفنا مبتدأه ولا زال الرأي العام ينتظر خبر صرف أمواله المقدرة بالمليارات.
كل ما علمناه هو أن الحكومة الحالية أوقفت مشاريعه وأن وزيرها السابق في التعليم لم يكن يترك فرصة إلا واستنكر بسخرية، وأحيانا بكثير من «التمشخير» والعنف اللفظي، مشاريع كانت توصف قبله بأنها ضخمة.
ومن ذلك توقيف مشروع تشجيع التميز بالثانوي الذي خلطه الوزير الوفا مع التمييز، دون أن يكلف نفسه عناء قراءة وثيقة الميثاق، ليرى أن الدعامة الحادية عشرة تنص على تشجيع التفوق متجنيا على جيل من التلاميذ دون أن يكون لهم ذنب سوى الكد والجد اللذين ميزاهم. كما نذكر من المشاريع ما عرف بالمقاربة البيداغوجية «الإدجاج»، من الدجاج وليس الإدماج.
وعلاقة بهذا الموضوع، فالسيد مدير المناهج بوزارة التربية الوطنية سبق أن عبر عن رفضه لهذه المقاربة في لقاء بمراكش سنة 2008، وما أن مرت سنة واحدة حتى أصبح يتجول في الأكاديميات مع مسيو «بوشعكاكة»، كما سماه الوفا، مبشرا بفتح اسمه «بيداغوجية الإدجاج»، وهي التسمية التي نالتها عن جدارة في حفلات التكوين في الإدماج بالدجاج.
والآن، وبعد مرور ثلاث سنوات من عمر الحكومة قضتها في رفع شعارات المحاسبة، فالوضع يتجدد بنفس المنهجية المتسمة بتعدد المتدخلين والمؤسسات في غياب للتنسيق والتكامل. والسنة الماضية فتحت مشاورتين متوازيتين من طرف المجلس الأعلى للتعليم ومن طرف الوزارة، هذه السنة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي يتحدث عن تقرير استراتيجي، والوزارة تقول إنها في تدبيرها اليومي تشتغل برؤية استراتيجية للقطاع ممتدة في الزمن إلى 2030.
أي المؤسستين سنهتدي بكلامها؟
أمام هذا الوضع الغارق في الارتجال والتخبط والمفتوح على احتمال إعادة إنتاج خيبة أخرى في تعليمنا بكل مستوياته، تطفو ملاحظتان أساسيتان إلى الواجهة:
الملاحظة الأولى تتعلق بغياب الانسجام والعمق في مقاربة الحكومة لقضية التعليم. فإذا كان عدم تحمل الحزب الأغلبي مسؤولية تسيير القطاع يؤشر على تنصله من الوعود الانتخابية ونأي بالنفس عن قطاع يعرف العديد من التحديات، فإنه يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية آثر مصلحته الانتخابية، وإلا كان عليه أن يكون أول من يوحد الجهود في إرساء تصور أوحد.
وفي هذا الأمر تأكيد للخلاصة الماثلة بقوة أمام المجتمع، وهي عجز الحكومة بحزبها الأغلبي عن تدبير النقاش العمومي في القضايا المجتمعية. ولكي لا نُتهم بالتحامل ككل مرة، فماذا يعني تجميد الحوار في القانون المنظم للتعليم العالي من طرف وزارة الداودي وإلقاؤه في مجلس عزيمان المنكب على إعداد تقرير استراتيجي يهم كل الجوانب ذات الصلة بتعليمنا العمومي والخصوصي؟
ماذا تعني إحالة ملفات اجتماعية كالتقاعد والتعاضد إلى مجلس بركة؟
الجواب واضح، الحكومة تتعامل بانتقائية يغذيها الهاجس الانتخابي مع قضايا المجتمع، فهي تعرف أن التعليم مكلف انتخابيا، وإلا لماذا لم يطلب بنكيران رأيا استشاريا من المؤسسات الدستورية في مسألة المقايسة التي تهم النسيج الاجتماعي والاقتصادي على السواء؟
أما الملاحظة الثانية، والتي لم يتطرق إليها أحد من قبل، وهي امتداد لما تطرقنا إليه في وقت سابق، عن كون الوزارة الآن تعلق الأستاذ لأن الصومعة «طاحت»، ولم يتساءل أحد لماذا نفس المسؤولين والذين كانوا في زمن تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين هم أنفسهم الموجودون في مرحلة البرنامج الاستعجالي، وهاهم اليوم يتصارعون ليكونوا أيضا في المرحلة المقبلة. فهل كلهم فعلا صالحون وأن الأساتذة وحدهم من يفشل التعليم دوما؟
فمع كل إعلان عن فشل برنامج للإصلاح لا تجد الوزارة ومسؤولوها المركزيون إلا الحكم على أن تطبيقه عرف ممانعة وسوء تنفيذ في الأكاديميات والنيابات وداخل حجرات الدرس. فإذا كانت مسؤولية هذه المصالح الخارجية ثابتة، فهل أداء المصالح المركزية وقراراتها لا يرقى إليه الشك؟
بل هل هيكلة وزارة التربية الوطنية، التي تعود إلى سنة 2002، والتي هي بحجم هيكلة حكومة وليس قطاع، تسهل تصريف البرامج أم أنها تعرقلها وتمدد آجال إنجازها بالنظر إلى عدد المديريات والأقسام والمصالح والمكاتب المركزية التي إن فكر أحد في تعدادها فسيصاب حتما بالدوار، وإن هو حاول البحث عن اختصاصات كل بنية لأصيب بالجنون. ثم هل هذه الهيكلة تصلح لكل زمان ولكل برنامج حكومي في القطاع؟ هل يعقل أن تكون للوزارة الواحدة مركزيا ما يزيد بكثير عن مائة مصلحة مترامية في كل أزقة الرباط؟
هل من اللازم الاحتفاظ بالعدد المبالغ فيه من المديريات والأقسام والمصالح، مع وجود مجالات التداخل والتقاطع الكثيرة في اختصاصات المصالح المركزية؟ ألم يبرهن البرنامج الاستعجالي عن استحالة تنفيذ مشاريعه بالهيكلة القائمة، وتم وقتها اعتماد هيكلة سميت آنذاك وظيفية، فأصبحت التربية الوطنية تسير بفريقين مركزيين متطاحنين، على الاختصاصات والتعويضات بالطبع، الأول يستمد شرعيته من الهيكلة الإدارية المنصوص عليها بمرسوم، والثاني يستمد قوته من الحماية المباشرة للسيدة الوزيرة، لدرجة أن الأمر وصل إلى المستوى الذي إذا حضر مسؤول مركزي إلى أكاديمية يتم التعامل معه بشكل عادي. إذن لماذا لا يطرح الوزراء المتعاقبون على التعليم أمر الهيكلة الإدارية لوزارتهم في جدول عملهم؟

إصلاح التعليم بالتيمم (2/2)


الجواب على سؤال أمس واضح، فالأمر يحسمه منطق الربح الشخصي، إذ يفضلون الاحتفاظ بعلات ما هو قائم بدلا من اقتطاع مدة من فترة مسؤوليتهم لمراجعة هيكلة أبانت عن عجزها في تدبير القطاع، خصوصا أن الأمر يتطلب وقتا لدراسة الجدوى وتفاوضا مع وزارات أخرى ومراجعة من طرف الأمانة العامة للحكومة. إضافة إلى ذلك، فأقدمية بعض المسؤولين بالوزارة جعلتهم كمسامير «الميدة» التي لا يجرؤ مسؤول على تغييرها مخافة أن تتكسر «الميدة» وتسقط على رؤوس الأكلة المتحلقين حولها.
ولكن لماذا لا يتم افتحاص أداء هذه المصالح المركزية وتقييم مدى مساهمتها في التربية الوطنية؟ الجواب مرة أخرى واضح، لأن افتحاص الحصيلة الفعلية لعمل كل بنية مركزية سيسائل مباشرة الوزارة الوصية والحكومة حول التشدق بالحكامة الجيدة والتدبير المتمركز حول النتائج وغيرها من السلع التي تستوردها مديريات الوزارة عبر المنظمات العابرة للقارات، ويتم تسويقها داخل قطاع التربية الوطنية بدون جمرك وبمباركة وزراء علمهم بتفاصيل هذه السلع ضعيف جدا إن لم يكن منعدما.
ومع ذكر الافتحاص في نهاية الدورة الأولى من الموسم الدراسي الحالي، اكتشفت المؤسسات التعليمية أن بالوزارة مفتشية عامة تهتم بالقضايا التربوية أوفدت مفتشين إلى هذه المؤسسات لملء شبكات الافتحاص. فهل نهاية الدورة مخصصة للامتحانات وإعداد بيانات النقط وعقد مجالس الأقسام، أم لملء استمارات السيد المفتش العام، الذي عرف عهده تعطيلا لعمل جهاز التفتيش التربوي وتوترا لهذا الجهاز مع الوزارة؟
ولتأكيد حضور السيد المفتش العام للوزارة داخل هرمها الإداري، أعلنت الوزارة مؤخرا، في بلاغ غريب، أنها ستقوم بافتحاص بنياتها التربوية وذلك بغرض تقديم النصح والدعم والمواكبة لهذه المؤسسات. اللغة المستعملة في البلاغ تفيد أن الأمر يتعلق بمؤسسة للوعظ والإرشاد لا بجهاز موكول له متابعة عمل مرافق هي في الأصل والمنتهى عمومية ينبغي أن يحكمها القانون. فالافتحاص داخليا كان أم خارجيا ينبغي أن يأخذ مكانه العادي ضمن برامج الوزارة التي من حقها تشخيص حالة كل البنيات.
إلا أن ما لا يمكن اعتباره عاديا هو التوقيت الذي تم اختياره للقيام بالافتحاص. أولا، هل أعدت الوزارة رؤيتها الاستراتيجية دون أن تكون لها نظرة عن بنياتها التربوية؟
ثانيا، هل فتحت الوزارة مشاوراتها في السنة الماضية معتمدة أرضية لا تأخذ بعين الاعتبار واقع بنياتها التربوية؟
ثالثا، إذا كان الافتحاص يعني في مرحلته الأولى تجميع المعطيات، فلماذا يتم إنجاز ذلك بشكل موازٍ ومنفصل عن عمل المجلس الأعلى للتربية والتكوين؟ وما هي مآلات كل الإحصاءات من شتى الأصناف التي تطالب بها الوزارة دوريا جميع المؤسسات التعليمية؟ ثم لا بد من التساؤل عن كفاءة الفاحصين، وأولهم السيد المفتش العام الذي لا يخبر الكثير في اليومي من عمل بنيات الوزارة.
إن اشتغال المصالح المركزية لوزارة التربية الوطنية، بالرغم من إثارته لكثير من الاستغراب فإنه في نفس الوقت يفسر العديد من إخفاقات القطاع، والبلاغ يشهد على ذلك، حيث أنه لا ينهل من معجم القانون الذي يحدد اختصاصات المفتشية العامة، ويبدو أن مديرية المنازعات والشؤون القانونية بالوزارة عاطلة عن التأطير القانوني لعمل الوزارة. فلو كان الأمر غير ذلك لما تورطت الوزارة في العديد من المنازعات الإدارية والتي حكمت ضدها، علما أن مديريتها المختصة تضم ثلاثة عشر قسما ومصلحة، ولنا جميعا أن نتخيل التكلفة المالية لذلك.
هذا الحال من تبذير المال العام يكاد يكون عاما داخل وزارة التربية الوطنية، ويسائل مديرية الميزانية قبل غيرها عن أوجه صرف الميزانيات الضخمة المخصصة للمصالح المركزية.
مثلا، ما هو حجم تعويضات التنقل والتغذية والمبيت والساعات الإضافية والتأطير التي يتلقاها المسؤولون مركزيا؟
كيف تصرف هذه التعويضات؟ ومن هم المستفيدون فعلا من هذه المبالغ؟
بل ما أثر هذا الصرف على حالة المنظومة؟
ذلك كله دون احتساب التكلفة الباهظة للتعويضات عن مناصب المسؤولية التي يضاف لها ما هو عيني من سكنيات وهاتف وسيارة والقائمة طويلة، وكله يدخل في باب البدع التي أحدثها مسؤولو وزارة التربية تحت ما يسمى الحوافز.
لذلك ترى أياما دراسية ولقاءات وسفريات تنظم لا لشيء سوى لتبرير صرف المال. ولعل المثال الواضح على ذلك الجولات التي قام بها مؤخرا مدير الموارد البشرية بالوزارة إلى وجدة والقنيطرة والجديدة للقاء طلبة سلك الإدارة التربوية دون سبب يذكر.
فالسيد لم يحمل جديدا حول مطالب هذه الفئة، إذن ما الذي جعله يترك مقر عمله كل جمعة ويتنقل ليخبر ما يقرب من 120 موظفا أنه لن يترتب عن تكوينهم أي ترقية ولا امتياز إداري؟
وهل هذا الإخبار يقتضي ترك مصالح ما يقرب من 300000 موظف؟
ثم لماذا يصر السيد مدير الموارد البشرية على التواصل اليومي مع هذه الفئة بالذات وبكل الأشكال، منها استقبالهم في مكتبه سواء كانوا فرادى أو جماعات وخلال أيام التكوين؟ ذلك كله لا يبدو غريبا في مسيرة الرجل المهنية، ففي عهده عرفت ملفات كثيرة اختلالات بالجملة منها ما ارتبط بالتفرغات وفتاواه حول الوضع رهن الإشارة والإلحاق وتغيير الإطار وأشكال تصريف الفصل 15 من القانون التنظيمي للمالية في الترقيات أو غيرها.
لم يعد بالمطلق في مغرب اليوم المتلهف على غد مشرق لمدرسته القبول بمثل هؤلاء المسؤولين القائمين على التعليم يمدحون البرامج والقرارات حينما تكون مدرة للمال أو تنال رضا الوزير أو منظمة أجنبية، وبمجرد ما يبدأ توجيه سهام النقد تراهم أول المنتقدين والمروجين إعلاميا للتحاليل والدراسات، كأن الإخفاق لا يقع تحت مسؤولياتهم المباشرة التي ينبغي أن تطالها المحاسبة بدءا بالكاتب العام الذي عليه واجب القيام بدور التنسيق بين مختلف البنيات المركزية بدلا من تركها في حالة المحميات المسيجة.



تعليقات

المشاركات الشائعة