عندما يهدد التعليم الخاص بالإضراب بقلم رشيد نيني




عشنا حتى سمعنا أن أرباب مدارس التعليم الخصوصي أصبحوا هم أيضا يهددون بشن الإضرابات، بعدما كانت الإضرابات شأنا مقصورا على التعليم العمومي.

ولعل أسوأ خبر يمكن أن يتلقاه اليوم سياسي يخشى على اسمه هو أن يتم اقتراحه لحقيبة التعليم، إنه كابوس حقيقي يؤرق السياسيين “الطموحين”، وهذا الأمر لا مبالغة فيه، لأنه قطاع انتحاري، وفي أيام الحسن الثاني رحمه الله كان الاستوزار في القطاع بمثابة عقاب، “الحزب اللي بغيتي فيه الخدمة عطيه التعليم”، واستمرت هذه الصورة إلى غاية اليوم، فأغلب الوزراء الذين أسند إليهم القطاع اختفوا من المشهد، لذلك لا نستغرب إذا عرفنا أن شخصيات كثيرة عرض عليها القطاع لتعويض محمد الوفا ورفضت دخول عش الدبابير هذا، ليتم اللجوء إلى رشيد بلمختار والذي يعد أيامه في الوزارة بالدقائق والثواني في انتظار أن يتم تعيين من يخلفه ليتخلص من الكابوس، تاركا على مكتبه ملفات تجعل الولدان شيبا، وعلى رأس هذه الملفات قطاع التعليم الخاص.

فهذا القطاع الذي يحيا وينتعش كلما مات التعليم العمومي، أضحى قنبلة موقوتة حولت مئات الآلاف من الأطفال إلى رهائن في يد بعض المستثمرين الذين اعتادوا على الريع الذي استفادوا منه لسنوات، وهاهم يهددون اليوم بالإعلان عن إفلاسهم، وطرد هؤلاء الأطفال إلى الشوارع إن لم تتفهم الدولة “الخير الأعظم” الذي يقدمونه للمجتمع، وعملت على تمكينهم من امتيازات ضريبية، وعدم محاسبتهم على تخليهم عن حقوق مستخدميهم، بل إنهم يذهبون إلى حد مطالبة الدولة بأن تمنع نفسها من الاستثمار في القطاع، من خلال مؤسساتها الاستثمارية.

هكذا أصبح يفهم البعض اليوم معنى الوطنية، والذي أضحى يعني مقايضتها بالامتيازات، لكن هذا الاستغراب يزول عندما نعرف أن من يقف وراء هذه المعركة المعلنة هم أغلب قادة حزب العدالة والتنمية، والذين يعدون من كبار المستثمرين في قطاع التعليم الخاص، والذين نراهم هذه الأيام يشوهون صورة بعض المستثمرين الآخرين لمجرد أن أسماءهم وردت في المراجعات الضريبية التي شملت كل شركات ومقاولات القطاع الخاص.

فقبل يومين عقد أرباب المؤسسات الخاصة جمعا استثنائيا لمدارسة مشاكل القطاع، وعلى رأسها توظيف وزارة التربية الوطنية لألفين من مستخدمي هذه المدارس بالعقدة، وأيضا توصل المئات منهم بمراجعات ضريبية وإنذارات من صندوق الضمان الاجتماعي، وهي مشكلات مترابطة في ما بينها، مشكلة معادلة قلما تتحقق في أي قطاع آخر، معادلة تجمع الارتجال والجشع وانعدام الرؤية الواضحة والفساد والريع على صعيد واحد.

فأرباب المئات من المؤسسات الخاصة توصلوا قبل أشهر بإنذارات أخيرة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بخصوص ملايير لم يدفعوها للصندوق عن الآلاف من مستخدميهم، وفي الوقت نفسه تلقوا إشعارات من مديرية الضرائب تخبرهم بوجوب دفع ملايير أخرى، بمعنى آخر فهؤلاء الذين راكموا ثروات من التعليم الخصوصي أصبحوا اليوم على حافة الإفلاس، وأصبح عشرات الآلاف من الأطفال مهددين بشكل مباشر في تعليمهم، يضاف إلى هذا أن أصحاب العشرات من هذه المدارس الخاصة وجدوا أنفسهم بدون أساتذة بسبب عملية التوظيف بالعقدة التي نظمتها الوزارة الشهر الماضي، أي بعد مرور ثلاثة أشهر على انطلاق الموسم الدراسي، وابتداء من شتنبر المقبل، ستكون كل المؤسسات الخاصة أيضا مجبرة على عدم تشغيل أساتذة القطاع العام بشكل نهائي، خلافا لما هو جاري به العمل اليوم.

وإذا علمنا أن الوزارة عازمة مرة أخرى على توظيف 16 ألف مدرس آخر بالعقدة في حدود ماي القادم، فإن هذا يعني ببساطة إفلاس العشرات من هذه المدارس، لكونها ستجد نفسها مستنزفة ماليا وبشريا، والآلاف من التلاميذ لن يجدوا بها ابتداء من شتنبر القادم مقاعد للدراسة.

هذا هو الوجه الأول للمشكلة، أما الوجه الثاني فالقطاع الخاص عرف انتعاشة غير مسبوقة في السنوات القليلة الماضية بسبب المشاكل التي تعرفها مؤسسات التعليم العمومي، وخاصة الاكتظاظ، لذلك تشجع المستثمرون الصغار والكبار وفتحوا مدارس، بعضها عبارة عن منازل أو شقق أو فيلات معدة للسكن، وبدون مرافق صحية لائقة أو فضاءات للاستراحة ومكتبات وقاعات للأنشطة التربوية الموازية، إذ بالقليل من “دهن السير يسير” في النيابات والأكاديميات يمكن لأي شخص أن يعلق يافطة “مدرسة خاصة” على باب شقته، ويضع اسم زوجته كمديرة تربوية، وحماته كمسؤولة إدارية وجارته كمُعلمة، ويشتري سيارة من “لافيراي” يحشر فيها عشرات الأطفال جيئة وذهابا، ليحصل على ترخيص و”هاهوا خدام”، لذلك لدى الأغلبية الساحقة من “المستثمرين” في هذا القطاع قناعة بأن الربح مضمون.

وبسبب أن أزمات المدارس العمومية لا تنتهي فإن الزبناء مضمونون، وبسبب أزمة البطالة فإن المستخدمين هم أيضا متوفرون، إذ يمكن لأي كان أن يشغل العشرات من المجازين برواتب لا تتعدى 1500 درهم دون تغطية صحية أو ضمان اجتماعي، وهؤلاء يتم إجبارهم على التوقيع على التزامات يشهدون فيها على أنفسهم بأنهم “مبرعين” صحيا واجتماعيا، ولا نستغرب هنا إن وجدنا الآلاف من مدرسي التعليم الخاص يشتغلون لسنوات طويلة لأكثر من ثلاثين ساعة في الأسبوع، ووضعيتهم على الورق هي “متدربون”، وخوفا من طردهم عليهم أن يعملوا المستحيل لكسب ود الآباء وأبنائهم، ولو اقتضى الأمر أن يشتغلوا أحيانا كمهرجين لإضحاك الأطفال، وهذا أمر حقيقي ولا مبالغة فيه، وعليهم أن يتكفلوا بإيصال جميع التلاميذ إلى منازلهم واحدا واحدا بعد انتهاء الحصص الدراسية، ومنهم من يتكفل بـ”الميناج” بعد مغادرة الأطفال، وهي ظروف عمل تذكرنا في مجملها بالروايات القديمة التي تصور لنا واقع العبودية في العصر الفيودالي البائد.

كل هذا ومشغلوهم لا يدفعون درهما واحدا لصندوق الضمان الاجتماعي أو لمصلحة الضرائب، وعندما مرت سنوات كانوا فيها يربحون فقط دون أية تكاليف، سيكون على الدولة، كما يهددون اليوم، أن تتحمل مسؤوليتها في إعفاء هذه المدارس من الضرائب وكذا من واجبات التغطية الصحية والضمان الاجتماعي للمستخدمين، بل وعلى الدولة أيضا، ولأجل سواد عيون أرباب هذه المدارس الخاصة، أن ترفض تشغيل هؤلاء المستخدمين المستعبدين إن هم تقدموا بطلبات التوظيف في الوظيفة العمومية، وإلا فهذه الدولة لا تفهم معنى “الشراكة” بل ولا تقدر “التضحيات الوطنية” لهؤلاء، والذين “يساهمون في النهوض بتعليمنا”، بحسب ما جاء على لسان أغلب المتدخلين في الجمع العام سابق الذكر.


لسان حال أرباب مدارس التعليم الخصوصي يقول بوضوح «دعونا نشغل من نشاء بالشروط التي نشاء ودون أن نعطيه أي حق صحي أو اجتماعي، وعليكم أيضا أن تعطونا امتيازات ضريبية وإعفاءات، وأيضا أن تعفونا من صندوق الضمان الاجتماعي، بل وعليكم أيضا ألا تسمحوا للأجانب بأن يزاحمونا، بل وحتى المؤسسات العمومية الكبرى عليها أيضا ألا تستثمر في القطاع، بل دعونا لوحدنا نغتني، وإلا فأنتم لا تفهمون شيئا في معنى الشراكة، ولا تفهمون شيئا في التضحيات الجسيمة التي نقدمها للوطن».

الوجه الآخر لهذا الوضع الكارثي، وهو وجه مسكوت عنه، هو تزامن منع وزارة الداخلية لمدارس تابعة لفتح الله غولن مع الدعوة إلى هذا الجمع العام لأرباب مؤسسات التعليم الخاص، والسؤال هو لماذا الاحتجاج في هذا التوقيت بالذات؟ لماذا ظلت الرابطة صامتة طوال خمس سنوات؟ أليس غريبا أن يكون عبد الهادي زويتن شريك بنكيران إلى جانب قادة آخرين كالراحل عبد الله بها في مدارس خصوصية كثيرة في القنيطرة وسلا هو الذي يتزعم هذا الاحتجاج؟ أليست هناك علاقة بين حرص بنكيران على الحصول على حقيبة المالية و150 مليارا التي تدين بها مديرية الضرائب لمؤسسات التعليم الخاص؟

فزويتن الذي يشتكي اليوم من تشغيل ألفين من مستخدمي المدارس الخاصة من طرف الأكاديميات، هو نفسه زويتن الذي تخلى عن تشغيل العشرات من الشباب في مدينة القنيطرة، والذين تم تكوينهم في مركز تكوين الأساتذة هناك، بحجة «عدم الكفاءة»، ولا تزال حتى الآن عشرات الشكايات التي وضعها هؤلاء في «الأنابيك» وعمالة القنيطرة بسبب هذا «المقلب»، ولحسن حظ أغلبهم أنهم تمكنوا من الحصول على وظيفة في القطاع العام، وهو أيضا نفسه زويتن الذي كان إلى جانب بنكيران عند انطلاقة مشروع تكوين عشرة آلاف مدرس موجهين للتعليم الخاص، وكان رئيس الحكومة يذكر اسمه مرارا في كلمة ألقاها في هذه المناسبة، باعتباره «نموذجا ناجحا» للاستثمار الخاص في التعليم، لكن هذا النموذج الناجح لم يلتزم بتعهداته بتشغيل هؤلاء، ليجدوا أنفسهم أمام البطالة، في عملية تشبه كثيرا مقلب «النجاة» التي تورط فيها عباس الفاسي، إذ من بين عشرة آلاف متخرج تم تشغيل ما يقل عن سبعين منهم فقط بشروط أقل ما يقال عنها أنها عبودية.

هكذا تتضح معالم الجريمة التي ارتكبها حزب العدالة والتنمية في حق التعليم في هذا البلد، حيث عمل على تكريس مشاكل التعليم العمومي بتقليص ميزانيات الاستثمار في القطاع بشكل متوال على مدى خمس سنوات، ورافقت ذلك خرجات متوالية لرئيس الحكومة يدعو إلى خوصصة التعليم، كل هذا لدفع الأسر المغلوبة على أمرها نحو التعليم الخاص الذي يسيطرون عليه، معتقدين أن حصولهم على السلطة سيمكنهم من توظيف نفوذهم فيها بإلغاء الضرائب والتغاضي عن التزامات صندوق الضمان الاجتماعي والتغاضي عن الظروف المزرية للتشغيل، لكن لحسن حظ هذا الوطن أن بعض مؤسسات الدولة نجت من «تحكمهم»، لذلك تم إجبارهم على دفع عشرات الملايير التي ظلوا يكتنزونها من أجل الخزينة العامة.

إن علاقة قياديي حزب العدالة والتنمية مع التعليم الخصوصي هي علاقة قديمة، حيث كانوا من أوائل الذين انتبهوا إلى مناخ الريع الذي يترعرع فيه، لذلك كانوا السباقين إلى اكتساح مدن بأكملها، بل واحتضان النموذج التركي تماما كما احتضنوا هذا النموذج في السياسة، فعندما بدأ نموذجهم التركي في التحكم في مقاليد الدولة التركية، كان التعليم إحدى واجهات التحكم في عقول المواطنين، حيث عمل أستاذ أردوغان، فتح الله غولن، على خلق العشرات من المدارس والجامعات في تركيا، قبل أن يعمل على خلق العشرات منها في أغلب الدول العربية والإسلامية، وهي مدارس تعمل كلها وفق منهج وفكر غولن، والذي يؤمن بأن السيطرة على النظام السياسي تتم بالسيطرة على عقول المواطنين، وكان المغرب إحدى هذه الدول، حيث استغل إخوان بنكيران مناخ الانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب أواخر التسعينات، ليسيطروا على حزب الخطيب، وعندما غيروا اسم حزب الخطيب إلى العدالة والتنمية كان نموذج غولن أمام أعينهم، إذ إن سبيل الحصول على السلطة يتم عبر التعليم، فسارعوا إلى مساعدة غولن على الاستثمار في المغرب، وتكفلوا هم بإدارة هذه المدارس، مستفيدين من الهالة الإعلامية التي خلقها أردوغان دوليا.

لكن انقطاع حبل الود بين أردوغان وغولن سنة 2013، جعل مدارس هذا الأخير موضوع استهداف من طرف السلطات التركية داخليا وخارجيا، وقد استفحل الأمر أكثر بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة هناك، والتي شكلت إعلانا عن طلاق نهائي بين الأستاذ الداعية وتلميذه السياسي، ليجد إخوان بنكيران أنفسهم بين نارين، نار أن يتخلوا عن الملايين التي تجلبها لهم هذه المدارس أو يلتحقوا بجناح أردوغان، لذلك حاولوا مرارا النأي بأنفسهم عن هذا الخلاف الدموي بين هذين الشخصين في تركيا، لكن قرار وزارة الداخلية توقيف هذه المدارس أنهى لعبهم على الحبلين التركيين، لذلك فهذا بالنسبة إليهم خسارة كبرى.

وإذا أضفنا إلى هذا المراجعات الضريبية وملايير صندوق الضمان الاجتماعي التي توصلوا بها، فإن هذا يعني ببساطة أن هؤلاء أصيبوا في جوهر تجارتهم المربحة، وزاد من يأسهم أن حقيبة التعليم لن تكون من نصيبهم ولو انشق القمر، لذلك من الطبيعي أن يتناسوا في غمرة الخسارات المالية الفادحة التي منوا بها أنهم حكموا لمدة خمس سنوات وسيحكمون مرة أخرى لخمس سنوات قادمة، ولبسوا قبعة المعارضين المتضررين والذين يهددون بالإضرابات في قطاع التعليم الخاص وطرد أبناء الشعب إلى الشوارع.

بقلم رشيد نيني

تعليقات

المشاركات الشائعة